(1)
غلاة الطاعة … والإساءة للدين
-من روائع الإمام ابن تيمية قوله في تعليق بديع على مذهب فقهي ساقط:
“نسبة مثل هذه الأقوال إلى الشرع توجب سوء ظنّ كثير من الناس في الشرع، وفرارهم منه، والقدح في أصحابه”.مجموع الفتاوى (30/354).
-هذه اللمحة العابرة من ذلك الإمام الكبير والسلفي الحقيقي، تنبه إلى قاعدة عظيمة يفترض أن تكون نصب عيني كلّ من يجني بجهله أو هواه على شريعة الله سبحانه، فينسب لها أقوالًا ظاهرة الفساد، يشهد بسقوطها العقل والنقل.
-ومع التقلبات والأحداث المتلاحقة التي تشهدها المنطقة عامة، ومع شيوع التسلط على رقاب العباد في بلادنا خاصّة، وما رافق ذلك من تهميش للدين، وتشريع لمظاهر التفسخ والانحلال، في ظل سياسات رسميّة تدفع الجيل الجديد باتجاه السقوط الأخلاقي ونبذ التدين.. انكشف عوار كثير من الآراء والتنظيرات الفاسدة المتعلقة بأحكام السياسة الشرعية.
-وإدراك حقيقة هذا الانكشاف لم يعد محصورًا في دوائر المتخصصين في العلم الشرعي، بل امتدَّ هذا ليشمل أصحاب العقول السويَّة ممن يتابعون ما يدور حولهم بحسرة، ويرون بأعينهم إلى أين تؤخذ البلد، وفي أي اتجاه يدفع بها، ثم يتلفتون حولهم بحثاً عن خطاب شرعي وسطي متزن يرسم منهجًا في دفع البلاء أو التخفيف منه، فلا يسمعون إلا حديثًا خاويًا مآله وثمرته: الإذعان والخضوع والانقياد والاستسلام لهذا المشروع القذر المنذر بالهلاك العاجل.
-والذين يتبنَّون ذلك الخطاب الخاوي المسيء للشرع لم يتوقف أمرهم عند الانقياد والإذعان، بل امتدَّ إلى الانخراط والمشاركة الفاعلة في مشروع الإفساد، من خلال عناوين مضللة يحسبون أنهم يخادعون ربَّهم بها.
-فبعدما كان كثيرٌ منهم يحمل صفة (طالب العلم)، تحول إلى شرطيٍّ يلبس مشلحًا بدل البدلة العسكريَّة، لديه توجيه من ضابطه الأعلى بملاحقة أي صوتٍ له قبولٌ في الناس، ممن يخشى أهل الفساد أن يكون له تأثيرٌ -ولو من بعيدٍ-في تعكير مشروعهم القائم على قدمٍ وساقٍ.
-فبعد سلسلة من الانحرافات المتلاحقة، نزل الغلاة بأهوائهم وأطماعهم دركاتٍ إلى الأسفل، فانقسموا إلى فريقين: فريق يتبنى منهج (الوشاية السريَّة)، تحت مسمى عضوية لجان الأمن الفكري مدفوعة الثمن، وفريق آخر يمارس دور تاجر الشنطة، من خلال (التطبيل العلني) لرموز الفساد وقادته. ومنهم فريقٌ يمتهن الوظيفة الأولى صباحًا، والوظيفة الأخرى مساءً.
-يخادعون خالقهم، ويرفعون شعار الدفاع عن “المنهج السلفي”، وحقيقة الأمر التي يعونها جيداً أنَّ لهم دوراً محدَّدًا لن يجاوزوه، ولن يجرؤوا على مجاوزته. وبرهان هذا أننا نرى أبصارهم معلقةً باتجاهٍ واحدٍ، ولا نرى أحدًا منهم يلتفت إلى الجهة الأخرى لينظر إلى ما فيها من مهددات أكبر تأكل الدين والتوحيد والسنة والأخلاق، فهم يعلمون أن تلك المهددات التي يتعامون عنها تنطلق من نفس الصف الذي اختاروا لأنفسهم الوقوف فيه.
-يملأون الدنيا حديثًا عن (منهج السلف) في الإنكار سرًّا، ومن عرف حالهم وخبرهم عن قرب، يدرك أنهم لا ينكرون لا سرًّا ولا جهرًا، فهم يدركون جيدًا أن من أذهبوا أديانهم في خدمة مشروعه، لن يقبل منهم سوى التحرك في حدود الدائرة التي رسمها لهم، ولن يسمح لهم بغير الدور الدنيء الذي كلفهم به!

هل يمكن أن يكون لهذا الفجور صلة بشرع الله؟!
هل يمكن أن يكون هذا منهجًا (للسلف الحقيقيين)؟!
هل هذه طريقة قدواتنا من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام؟!
هل هذه طريقة مالك والثوري والأوزاعي والليث وأحمد بن حنبل وسائر الأكابر؟!
هل في هؤلاء من كان يمتهن الوشايات؟! أو يحترف الثناء على المفسدين؟! أو يرضى لنفسه أن يكون جزءاً من مشاريع الفساد؟!
-هنا نعود لمقولة الإمام ابن تيمية، ونقول: إن نسبة مثل هذا المنهج إلى الشرع (توجب سوء ظنّ كثير من الناس في الشرع، وفرارهم منه، والقدح في أصحابه). وهذا ما نخشاه على الجيل الذي ينشأ الآن ولا يسمع إلا مثل ذلك الخطاب البائس المرذول، مع ما يتضمَّنه من التمويه والتضليل ولبس الحق بالباطل.
-ولأجل هذا كان لزامًا على أهل العلم القيام بواجب البيان، والاجتهاد في تفكيك ذلك الخطاب المنحرف، وبيان براءة دين الله منه، وكشف نسبته المزوَّرة لأئمة السلف، وذلك من خلال كلام السلف أنفسهم، لا من خلال الهجائيات الفارغة.
-وهذا ما سننشره بإذن الله في هذه الحلقات تحت عنوان: “لمحات في السياسة الشرعية”.