الذى يخشاه الطغاة من سقوط بشار

منذ سقوط بشار الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، والقلق يساور حكام عواصم عربية من تداعيات التغيير المفاجئ في سوريا، واحتمالات وصول ارتدادات زلزاله إلى الإقليم العربي برمته.

وعلى الرغم من الترحيب الحذر الصادر من عواصم عربية مهمة إلا أن أمارات القلق بادية تحت القشور الدبلوماسية، وسكان قصورها سواء عليهم أكانوا تحفظوا أم رحبوا بالحكام الجدد في دمشق؛ فإن ما تخبئه الكلمات الدبلوماسية التقليدية خلفها، تبوح به اللجان الإلكترونية، وتنطق به وسائل الإعلام المحلية والدولية القريبة جدًّا من تلك النظم العربية، والتى تعالج الأحداث السورية بشيء من التحفز لكل اضطراب وأى فتنة، تضخيمًا وإبرازًا، وكل إيجابية بشيء من التجاهل والتشكيك.

والخشية البادية من هذه النظم العربية ليس لأنهم يجهلون قراءة ما قد حصل، بل ما كان يتوقع حدوثه بعد أن تتحرك الجحافل “الثورية ” باتجاه دمشق، بل بالعكس تمامًا فهم أكثر الناس إدراكًا بأن ما قد تم من إطاحة ببشار وإسقاط أصنامه ليس فعلًا ثوريًّا مجردًا بل داخلته تأثيرات خارجية من دول مؤثرة كتركيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران وحتى إسرائيل، إما تحفيزًا ومساندة، وإما صمتًا تقريريًّا وموافقة ضمنية على إزاحة بشار الأسد، وإما تمنعًا عن منح “قبلة الحياة” لنظام قد مات إكلينيكيًّا وإقليميًّا، مصيبًا داعميه بخيبة أمل كبيرة في قدرته على الصمود، وأداء دوره التقليدي في المنطقة؛ إما لعجزه أو تصلبه الأرعن.

ما يعتمل في نفوس القادة المنزعجين، وعبر عنه أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي خلال كلمته في “مؤتمر السياسات العالمية” حين قال: “أعتقد أن طبيعة القوى الجديدة (فى سوريا)، ارتباطها بالإخوان، وارتباطها بالقاعدة، كلها مؤشرات مقلقة للغاية”

وما سبق أن أوضحه سفير الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة قبل تسع سنوات في تصريحات لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي (٢٦ /١ /٢٠١٦)، حيث وضع “مانيفستو” لما تريده أبوظبي لسوريا يتلخص فيما يلي من عبارات: “

١- علمانية هي الكلمة الفاعلة الرئيسة.

٢- ما نريد تجنبه هو الجماعات الإسلامية.

٣- نظام برلماني يكون للأقليات فيها تمثيل في البرلمان أكبر من حجمها الحقيقي مثل لبنان.

٤- تخفيض صلاحيات رئيس الجمهورية”.

كما عبرت عنه الأوساط القريبة من النظم العربية من أكاديميين و”مثقفين” وإعلاميين ونحوهم، هو كله لا يدور فى نطاق قراءة ترى حكام سوريا الجدد مجرد “مجاهدين” أو “إرهابيين”! أيًّا كانت التسمية التي يطلقها الحكام، قد قاموا بهجوم خاطف على نظام أقلويٍّ مفكك؛ فانتصروا عليه! إنما تعتبر أن رفيق دربهم الاستبدادي قد تم بيعه، والتضحية به كقربان لنظام جديد!

بل حتى لو افترضنا جدلًا أن بعض العواصم العربية راضية عن إزاحة بشار الأسد لقطع الطريق على تهديدات إيران لها؛ فإن طريقة إزاحته لا تمر من حلقومهم؛ فالإقليم قد شهد عديدًا من حالات «التغييب القسري» لحكام عرب عن كراسيهم في ربع القرن الماضي، حينما قرر الغرب أن لا يبقوا في سدة الحكم، أو لم يمانع في ذهابهم. وقد مثلوا واحدًا من نماذج ثلاثة: صدام حسين – د. محمد مرسي – بشار الأسد!

فأما الأول فقد عاند الولايات المتحدة في أكثر من ملف:

١- استقلال القرار السياسي.

٢- تقوية جيشه بصورة تفوق مايقبله الغرب وتهديده، من ثَمَّ، للكيان الصهيوني، والنظم العربية التابعة لهذا الكيان.

٣- استقلال اقتصادى لاسيما في مجال النفط.. إلى غير ذلك من الأسباب.

وأما الثاني: فلأنه:

١- يحمل مشروعًا إسلاميًّا مستقلًّا.

٢- معادٍ للكيان الصهيوني.

٣- يمثل نموذجًا ديمقراطيًّا لو نجح لعادت للشعوب المسلمة إرادتها في رفض المشروع التغريبي المهيمن.

٤- من الممكن أن يتحالف مع خصوم الولايات المتحدة ويقيم حلفًا يضم أكبر دولة عربية.

وأما الثالث:

فلأنه قد عجز عن الوفاء لأسياده بما يطلبونه منه من أداء دوره الوظيفي كحارس للاحتلال الإسرائيلي، لكن دون تغيير التوازن المرسوم مع القوى الدولية والإقليمية، ودون الاضطرار إلى البقاء تحت الحماية الإيرانية ومن ثَمَّ تحويل سوريا إلى دولة ميليشياوية على الحدود المزعومة لإسرائيل.

وليس لأن “بشار” قد رفض أن يخون سوريا؛ دينها، شعبها، وأرضها؛ فهو لم يألُ جهدًا في القيام بذلك على وجهه الأسفل!

وإذا فكر “الزعماء” مليًّا فلن يتحسسوا أعناقهم بسبب خشيتهم من أن يحاكوا النموذجين الأولين؛ فحاشاهم أن يفعلوا ذلك! فهم بعيدون كل البعد عن القيام بأمري الدين والدنيا، رافضون لمجرد التفكير في أن يقوموا بتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية، مستبدون لا يقبلون رأيًا ولا رقيبًا ولا مؤسسات تسنُّ قوانين أو ترقب أداءً لأنظمتهم الشمولية!

إن ما يرعبهم هو النموذج الثالث: نموذج العاجز عن أداء دوره الوظيفي.

وقد كان من كان قبلهم أكثر حصافة وعقلًا منهم – على جبروتهم وعنجهيتهم – يستبقون لأنفسهم بعض الأوراق التى يناورون بها عرابيهم؛ فترى أحدهم مرة يترك هامشًا لجماعة الإخوان المسلمين للعمل السياسي مع قمعه المقنَّن لها بالتوازي مع ذلك، وقد يسمح لهم بالتظاهر في الملفات التى يرغب في إشعار عرابيه أنه واقع فيها تحت «ضغوط شعبية وسياسية»!

وتراه – أو غيره من «الزملاء» – يستبقي الإرهاب أو يصنعه ليستمدَّ من وجوده ومحاربته له شرعيته في البقاء على كرسي الحكم!

وتراه – أوغيره – يسمح بهامش لا بأس به للعلماء والدعاة والمصلحين ليطرقوا قضايا كثيرة – دون شرعية حكمته ومعارضة سياساته – لتخيير العالم دائمًا بينه وبين «التشدُّد الديني» و«الأصولية» المزعومين، والتوكيد للحلفاء بأنه مهما كان لا يرقى لطموحاتهم؛ فهو على أسوأ الأحوال أهون الشرَّين! وإلا؛ فالإحياء الديني الواعد، والجهاد المقدس من خلفي، لا يمسك بحُجُزه سواي!

إن السابقين الأكثر خبرة كانوا قد تمسَّكوا ببعض مسوغات شرعية مسوِّغات بقائهم لدى العرابين لكن الخَلْف لم يطيقوا أن يفعلوا، وانساقوا خلف نصائح أولاد أعمامهم؛ فجرَّدوهم من أي قوة أو ورقة ضغط، حيث لم يعد في جعبتهم من أداة سوى تنفيذ ما يمليه عليهم «سادة العالم» ـ في نظرهم -!

ثم لم يعد هذا أيضًا كافيًا لبقائهم؛ إذ بات من أهم مسوغات بقائهم أن يمسكوا بزمام الأمور جيدًا، وأن يبقوا قادرين دائمًا على قمع شعوبهم لكن دون ضجيج كضجيج بشار، وبقدرة على بسط الهيمنة دون حاجة إلى مساندة من أعداء أو خصوم واشنطن أو دون إخلال باتزان قوى الإقليم!

وهذا ما لا يضمنه «الزعماء» خصوصًا أن المنطقة في حالة سائلة لا تحتمل أخطاء هنا أو هناك بنحو لم يكن مشهودًا إبان حكم الأسلاف.

ولهذا؛ فإن نموذج بشار سيظل هو الأكثر إزعاجًا لحكام نظم عربية على مقربة من سوريا جغرافيًّا ونظامًا، خصوصًا والجميع يعلم ما لسوريا من ثقل حضاري ودور تاريخي يتردد صداه في الإقليم، بله العالم الإسلامي برمته.. وليسألوا الأمويين والأيوبيين وغيرهم كثير!

ورغم عظم التحدي الذي تواجهه الأنظمة المنزعجة، فإن الخيال يغيب عن أذهان واضعي سياساتها الخارجية والداخلية، توهمًا منهم أن النبش في دفاتر الماضي منجٍ، وأن اجترار الطرق التقليدية ناجع، وبالتالي سيلجأون إلى آلياتهم التقليدية الخالية من الابتكار والإبداع:

داخليًا: الحل هو في مزيد من التسلُّط والاعتقالات والتدقيق الأمني وزراعة غابات الكاميرات.. إلخ، ولو تأملوا قليلًا لأدركوا أن “بشار” فاق كل رفقائه في قمع شعبه حتى قصف المدن بالبراميل والأطفال بالكيماوي، وبالغ في دمويته وإجرامه ومع هذا لم يشفع له كل هذا أو يبقيه في قصره؛ فلا يبدو أن مزيدًا من الارتماء في الحضن الأمريكي منجٍ من مصير كمصير بشار؛ فالرجل الذى جاء بإرادة أمريكية حقيقية لم يعد مناسبًا للأمريكيين ولا الإسرائيليين الذين استجداهم في لحظاته الأخيرة فتنكروا له، رغم فرشه لهم كل آليات الجيش مكشوفة وجاهزة للتدمير الإسرائيلي في يومين اثنين فقط. و«الزعماء» قد فهموا أن الجميع سكت عن تغييب بشار لفشله.

والذين حكموا بفشله، ولم يهبُّوا لنجدته يوم سقط أصبحوا اليوم يتساءلون بجدية: ما الذي نجح فيه حلفنا العربي في ملفات الإقليم التي فوضناهم بحلها منذ سنين؟!

فخارجيًّا: حفتر لم يحكم، وحميدتي لم يعد قادرًا على تغيير عقيدة الجيش السوداني وينحدر من هزيمة إلى أخرى، وانتهى إلى قاطع طريق، و«الحضن العربي» الذي أراد الأتباع إعادة بشار إليه، لم يزده إلا انهزامًا وسقوطًا.

فما الذي تنفعون به إذن؟! حتى شرعية المكافحة السرمدية لتيارات إسلامية أهدرتموها بنزق مركب من بين أيديكم!