الدولة السلجوكية والمملوكية نموذجًا
مع حداثة سنِّه، لم يكن السلطان ملكشاه قد أدرك بعد، قيمة العلماء، وما ينفقه الوزير الحصيف الذي لم يجد الزمان بمثله، في حسن سياسته وإدارته للدولة، ، نظام الملك، من أموال وأوقاف على «المدارس النظامية» والمساجد والعلماء في سبيل إنهاض الأمة الإسلامية، ومنع الفتن والانحرافات الفكرية والأخلاقية فيها.
أرسل ملكشاه لنظام الملك مستفسرًا: “يا أبتِ (وقد كان نظام الملك الطوسي شيخًا كبيرًا ووزيرًا سابقًا لوالده السلطان ألب أرسلان)، بلغني أنك تخرج من بيوت الأموال كل سنة ستمائة ألف دينار إلى ما لا ينفعنا، ولا يغني عنا”؛ (أي للعلم والعلماء والمدارس والأوقاف)!
فبكى نظام الملك، وقال – فيما قال -: “أنت مشتغل منهمك في شهواتك، وأكثر ما يصعد إلى الله تعالى، معاصيك، دون طاعتك، وجيوشك الذين تُعدهم للنوائب، إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيف طوله ذراعان، وقوس لا ينتهي مرماه ثلاثمائة ذراع (المدى: ٢٠٠م تقريبًا!)، وهم بذلك مستغرقون في المعاصي والخمور والملاهي والمزمار (بوليفارد أصفهان، وليالي الرِّي!)، وأنا أقمت لك جيشًا يُسمى جيش الليل، إذا نامت جيوشك ليلًا، قامت جيوش الليل على أقدامهم، صفوفًا بين يدي ربهم؛ فأرسلوا دموعهم، وأطلقوا بالدعاء ألسنتهم، ومدوا إلى الله أكفافهم بالدعاء لك ولجيوشك، فأنت وجيوشك تعيشون، وبدعائهم تبيتون، وببركاتهم تُمطرون وتُرزقون، تخرق سهامهم إلى السماء السابعة بالدعاء والتضرع” (سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي 1/515).
وبكل برهان، يُثبت التاريخ أن الدولة السلجوقية ما كان لها أن تقوم وتدوم، وتتعاظم في عصري ألب أرسلان وملكشاه إلا يوم أن قيض الله لها الوزير الحاذق، نظام الملك الذي أحدث نهضة في الأمة المسلمة لم يزل يتردد صداها إلى اليوم، ووقف حاجزًا قويًّا بسياسته ومساندة العلماء الأجلاء أمام انسياح الباطنية في بلاد الإسلام.
ويثبت أيضًا أن قيام الدولة المملوكية في أوج تمددها وعنفوانها يوم حكمها الظاهر بيبرس، من بعد طوفان المغول في معظم بلاد الإسلام إنما قام مع إعداد الجيوش بتقدير العلماء وفتح المدرسة الظاهرية، و«وجه عنايته إلى نشر العلوم الإسلامية، فشيد بذلك المدارس وزودها بخيرة العلماء والفقهاء، وأعاد الجامع إلى ما كان عليه في عهد الفاطميين (أي من العناية بالعلم الشرعي السني وليس الإسماعيلي)، فصار الطلاب يهرعون إليه من كل أرجاء العالم الإسلامي، فاستعادت بذلك القاهرة مكانتها العلمية والأدبية» (الظاهر بيبرس وحضارة مصر في عصره لمحمد جمال الدين سرور – ص 158).
وقل هذا في كل نهضة يمتزج فيها علو شأن الدولة الإسلامية بعلو شأن العلماء في بلادهم، واستقلالهم وحضورهم وتأثيرهم وحريتهم وانطلاقتهم، قل هذا في دولة المرابطين، وقله في ممالك إفريقيا وجنوب آسيا ووسطها، قله في كل عصر ومصر.
وبكل برهان، يُثبت التاريخ أن الدولة السلجوقية ما كان لها أن تقوم وتدوم، وتتعاظم في عصري ألب أرسلان وملكشاه إلا يوم أن قيض الله لها الوزير الحاذق، نظام الملك الذي أحدث نهضة في الأمة المسلمة لم يزل يتردد صداها إلى اليوم، ووقف حاجزًا قويًّا بسياسته ومساندة العلماء الأجلاء أمام انسياح الباطنية في بلاد الإسلام.
وقُل نقيضه في كل اضمحلال وانهيار، حين لا يقدر الحكام للعلماء أقدارهم؛ فيزجونهم في الأقبية والسجون، ويغرون بهم السفهاء والدهماء، وما أكثرهم في تلك العهود الرذيلة!
يحكي ابن إياس عن الوقت الذي انهارت فيه دولة المماليك بمصر، وانتهى مجدها وذلّ حكامها، وفقدوا قدرتهم على بقاء دولتهم الكبيرة التي كانت مرهوبة أيام السلاطين الكبار، حين أوشك العثمانيون أن يزيلوا ملك المماليك، لم يجد المماليك المرتزقة المستقدمون من البلاد البعيدة دون أن يتربوا أو يدركوا للإسلام قيمته ولا العلم شأنه ولا العلماء قدرهم، يقول ابن إياس: “خرج هؤلاء يطلقون النار على القضاة والعلماء والتجار، وهجموا عليهم الحارات والبيوت، وأنزلوا القفهاء من على بغالهم في وسط الأسواق، وأخذوها من تحتهم” (بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس 4/ 474).
وهكذا تكون النهايات، ولكن القوم لا يعقلون، ويفرحون بكل برنامج مشبوه يطلقونه نيلًا من عالم، أو يقدمون منافقًا مهرجًا دعي علم لينفر الناس منه ومما يمثله من دين، أو يغرون بالعلماء والعلم والدين سفهاء مرتزقة من جحافل خلايا الذباب الإلكتروني الهادم الفتاك بالمجتمعات والشعوب.
ناهيك عن استهدافهم وتغييبهم في غيابات السجون بمحاكمات جائرة واتهامات كاذبة!
يحسبون أنهم بذلك قد حالوا بين الجماهير وعلمائهم، وأنهم نجحوا في تفريق الناس عن علمائها ليسهل قيادها وسوقها في طريق التحديث المزعوم، ولا يفهمون أبدًا أن سنة الله جارية عليهم، فما أشبههم بالمماليك الجُلبان الحمقى، وما أسرع ذهاب ملكهم!