خلقنا الله لعبادته.
ولكي نعبده أنزل علينا شريعته.
والإيمانُ بالشريعة والعملُ بها والدعوةُ لها واجبٌ على المسلم والأمة المسلمة؛ فمن مقتضيات الإيمانِ والتعبّدِ لله سبحانه وتعالى قيامُ الأمةِ بحفظ الشريعة، وعمارةِ الأرض بها؛ لإعلاء كلمة الله، وحتى يكون الدينُ كلُّه لله.
وفي سبيل ذلك؛ يجب على الأمة أن تُقيم نائبًا عنها يتولّى الإمامةَ وشؤونها.
ورأس أولويات الإمامة وأعظمها هو: إقامة الشرع؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمات كتابه السياسة الشرعية: (فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم).
وحينما أوجب الشرع على الأمة أن تنصب إمامًا؛ بيّن لها أن طريقة نصب الإمام تكون بالبيعة الشرعية، التي تعني حقَّ الأمة في اختيار الحاكم، والبيعة الشرعية تشتمل على عقد حقيقي يتعهد فيه الحاكم بأن يحكم بالشرع الإسلامي، وتتعهد الأمة في مقابل ذلك بطاعته بالمعروف.
البيعة إذًا مفروضة لإقامة أحكام الإسلام في الدولة، وهي ليست انتخابًا لإقامة أي حاكم، بل هي بيعة شرعية مرتبطة بتطبيق أحكام الشرع.
وتوكيدُ حق الطاعة للإمام الشرعي مرتبطٌ بإقامته لأحكام الإسلام.
وإن أخلَّ الإمام بشرط البيعة اختلت إمامته.
لأن الأصل هو الوفاء بالعقود والعهود، فإذا أخل الحاكم بالتزامه؛ سقط ما وجب على الأمة بمقتضى عقد البيعة من الطاعة والنصرة.
ورأس أولويات الإمامة وأعظمها هو: إقامة الشرع؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمات كتابه السياسة الشرعية: (فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم).
وقد وردت أحاديث كثيرة في وجوب البيعة، منها، قوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، فهذا الحديث يدل على وجوب البيعة الشرعية للخليفة، الذي يُعد الحاكم الشرعي الذي تجب بيعته.
وليس المقصود منه وجوب مبايعة حاكم الدولة التي يقيم فيها المرء أو التي ينتمي إليها، سواء حكمت بالشرع أو بغيره من القوانين الوضعية، وسواء قامت على مفاهيم اللادينية أو الوطنية أو القومية أو الديموقراطية أو الاشتراكية، وسواء كان الحاكم فاسقًا أو ظالمًا أو كافرًا.
إنما المقصود من الحديث: إنه إذا كان هناك إمام شرعي، توافرت فيه شروط صحة البيعة، وانتفت نواقضها، فإنه يجب على المسلم أن يبادر إلى البيعة إذا كان من أهل الحلِّ والعقد أو طُلبت منه، أما إذا لم تكن شروط صحة البيعة متوفرة في هذا الحاكم، فليس عليه واجب البيعة، بل يجب عليه أن يسعى لإيجاد الحاكم الشرعي حسب طاقته.
وقد ورد جمعٌ من النصوص الصحيحة الصريحة في الصبر على أئمة الجور؛ فهل ما ورد من النصوص في الصبر على الأئمة الجائرين أو العصاة ينطبق على حكام عصرنا؟
إن الإمامَ الذي تحدثت عنه هذه النصوص -كما قرر العلماء- إمامٌ يقيم شرع الله، ويجاهد العدوَّ، ويحرس المِلَّة، ولكن مع تقصير في بعض الواجبات ووقوع في بعض المحرمات، فهل هذا ينطبق على حكام عصرنا؟!
فكما هو متقرر؛ الإمامةُ هي النيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهذا موضع اتفاق بين الفقهاء، فسند استحقاقهم لولاية التصرُّف العام على المسلمين هو النيابة عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، “فولايتهم فيما خالفوا فيه هديه منعدمة”.
والنصوص إنما أمرت بالصبر على الجور وفسق الولاة مادامت الشريعة قائمة والدين مُحكمًا، أما الصبر الذي يؤدي إلى ضياع الدين فليس من مقصود الشارع، ولا يمكن أن يأمر الشارع بما يناقض مقصوده!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب)، ويقول: (وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
فالذي تكلم عليه أهل السنة من الصبر على أئمة الجور شيء، وحال حكام اليوم شيءٌ آخر، والخلط بينهما جهل أو تلبيس.
فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية معقبًا على الأثر المعروف: “لا بد للناس من إمامة برَّة كانت أو فاجرة”؛ أنه من قول علي رضي الله عنه، ثم ذكر تتمة القول: (يا أمير المؤمنين قد علمنا البرة؛ فما بال الفاجرة؟ قال: يُقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويُجاهد بها العدو ويُقسم بها الفيء).
والنصوص إنما أمرت بالصبر على الجور وفسق الولاة مادامت الشريعة قائمة والدين مُحكمًا، أما الصبر الذي يؤدي إلى ضياع الدين فليس من مقصود الشارع، ولا يمكن أن يأمر الشارع بما يناقض مقصوده!
هذه هي مقاصد الإمام الشرعية والتي من أجلها يُصبر على فجور الأئمة، أما إذا كانت هذه الولاية لتبديل الدين وتحكيم القوانين الوضعية وسياسة الأمة بالعلمانية وإشاعة الفاحشة وفرض التغريب والتبعية للغرب فهل نقول إنها شرعية؟!
وهذا المعنى هو المتقرر عند العلماء:
يقول القاضي أبو يعلى الحنبلي في الأحكام السلطانية: (وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم حقَّان: الطاعة والنصرة، مالم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة)، ويقول: (النصرة واجبة تجاه أئمتها العدول … أما أئمة الجور والفسق فلهم شأن آخر، فهم لا يُعانون على ما هم فيه من ظلم وفسوق، ولا يجب على الأمة أن تفزع لحمايتهم ونصرتهم إلا إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة)، فكيف بمن يعمل على تبديل الدين وتمكين الكافرين؟!
يقول القاضي عياض: (فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج من حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه، وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكن ذلك).
يقول محمد رشيد رضا: (لا يُطاع أولو الأمر إلا بعد استيفاء الطاعة لله وللرسول في كل ما يصدر عن أولي الأمر، فأولي الأمر يُطاعون تبعًا لطاعة الله وطاعة الرسول، وبعد توفر الطاعة لله ورسوله).
وفي مقطع منشور في اليوتيوب، سُئل الشيخ الألباني رحمه الله عن ولي الأمر الذي يجب طاعته؟ فأجاب بأنه الذي ينطلق من حكمه لأمته وشعبه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن (ما جرى مجرى العثرات لا تنحل به عقدة الإمامة لعدم انتقاض مقصودها به، وأما ما جرى مجرى السنة الثابتة والقواعد المستقرة بحيث يتحول هذا الزيغ إلى عقائد راسخة وأحكام ثابتة؛ فلا وجه للقول باستمرار الإمامة معه، وقد انتكست أمور الدين واختلت به أحوال المسلمين، وهو نقيض ما يُقصد من الإمامة، وقد تمهد في قواعد الشرع أن العقد يبطل إذا كان يُحلُّ حرامًا أو يُحرِّم حلالًا.
وأن الفقهاء ما قالوا بإمامة المتغلِّب وترخَّصوا في كثير من الشروط التي يجب اعتبارها في الأئمة إلا لما يُحقِّقه هذا المتغلِّب من مقاصد الإمامة؛ كإقامة الحدود، وسد الثغور، والجهاد في سبيل الله، والحكم بين الناس بما أنزل الله. أما مجرد أن تجتمع الأمة تحت ولاية من لا يُحلُّ حلالًا ولا يُحرِّم حرامًا ولا يُقيم حدودًا ولا يعرف معروفًا … فليس بمقصود شرعي، لأنّ تفرُّق الأُمَّة على الحق أولى من اجتماعها على الباطل). الوجيز في الخلافة للصاوي.
وبناء عليه؛ فإن الإمام الذي لا يُقيم أحكام الإسلام وشرائعه قد خان عقد البيعة، ومَن خان عقد البيعة بطلت إمامته وفقد مشروعيته.
وانعدام مشروعية الإمام لا علاقة لها بطبيعة الحال بالكفر والردَّة؛ فإن لتكفير الأعيان ضوابطَه المعلومةَ عند أهل السنة.
ولا يعني بالضرورة القولَ بالخروج المسلح والقتال، لأن انعدام مشروعية الإمام مناط له أحكامه وآثاره، والقول بالخروج المسلح مناط آخر له أحكامه وآثاره، ” كما سنوضح ذلك في مقال قادم بإذن الله”.
ولا يعني مشروعيةَ المنابذةَ في كل وقت وعلى كل وجه، بل ما تتحقَّق به من ذلك مصلحةُ إقامة الدين بدون مفسدة راجحة، فقد شهدت الأمة سيطرة دول مرتدة -كالعبيدية- ولم تقض بسقوط الشرعية عن جميع أعمالها بالكلية، ولم يحكموا ببطلان ما وافق الحقَّ من أحكام قضاتها ونُظَّار المصالح العامة؛ لما يترتب على القول بذلك من شيوع الفوضى وتعطُّل المصالح العامة، بل أنفذت من أحكام الولايات الجزئية وسياساتها ما وافق الحقَّ وتحققت به المصلحة.
وخلاصة التطواف المراد بيانه في نهاية هذا السعي المبارك بإذن الله:
بيان خطأ كثير من المعاصرين في تنزيل النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة في أئمة العدل على غالب حكام اليوم، وخطئهم في تنزيل مفهوم الصبر على أئمة الجور والعصاة المتقرر عند أهل السنة على غالب حكام عصرنا اليوم.
وبالله التوفيق.