قلنا فيما سبق، أن هذا الاندفاع والاحتفاء الخليجي عامة والسعودي خاصة في دفع تريليونات الإنعاش للاقتصاد الأمريكي يسهم في ذبح غزة بدعم قصابيها، ويخلف إحباطًا شديدًا لدى جمهرة من الملتزمين – حتى الآن – بمقاطعة منتجات الداعمين لـ«إسرائيل».
والشعب السعودي على وجه الخصوص- والذي هو أفقر الشعوب الخليجية- الذي يلاحق الغلاء ويكابد البطالة، يستفزه كثيرًا هذا التفريط الفادح في ثروات البلاد، ولا يتقبل ولا يقتنع بما يحاول الموالون واللجان الإلكترونية ترسيخه في أذهان الناس من أن هذه التريليونات إنما هي استثمار في محله؛ لأنه يقود بلادهم إلى دخول عالم التقنيات الجديدة والاستثمارات الواعدة، كمثل الذكاء الاصطناعي وغيره؛ فأكثر ما يطمح إليه الممولون هو توسيع الهوة بين الغرب والخليج في تلك المجالات، بين صانعي التقنية ومستخدميها. ويشاهدون في ذات الوقت خسائر صندوق الاستثمارات العامة في لوسيد وغيرها.
ثم إن الشعب السعودي الذي أثقلت كاهله الضرائب والرسوم الباهظة يتساءل: من أين تدفع هذه التريليونيات الهائلة في ظل عجز الموازنة بعد تدهور أسعار النفط؛ المصدر الرئيس للدخل السعودي؟!
والشعوب تدرك بذكائها الفطري أن مشروع النهوض بالولايات المتحدة الذي يسعى ترامب لتحقيقه هو عكس مسار الدول الخليجية تمامًا؛ فطريقه هو إعادة توطين الصناعات والمصانع المهاجرة من بلاده بينما الخليج يمول بقاءه مستهلكًا مستوردًا للتقنيات، وهذا ما لا يتمناه ترامب ولا أي رئيس مخلص لبلاده.
والمواطن العادي في الخليج لا تخطئه رؤية بلاد تتقدم ببناء حضارتها ومدنيتها وتقنيتها بسواعد أبنائها، وأخرى تمضي بها عشرات السنين من دون أن توفر غذاءها وسلاحها ودواءها، كأي دولة تسير في الطريق الصحيح، ولا يعرقلها في مسارها إلا ضعف الاقتصاد وقلة الإمكانات المادية، وهو ما لم تكن تعاني منه ميزانيات دول الخليج قبل تورطها في الإنفاق الباذخ في مشاريع غير منتجة ولا فعالة، كنيوم وتنظيم كؤوس العالم وفعاليات هيئة الترفيه وسواها.
يفهم كل ذي لُب، أن ما أُنفق لا يهب لفاعله استقلال قرار، ولا حرية إرادة، بل لا يحفظ هوية وقيمًا، وإنما يخلّف تبعية ومذلة ولا يزيد أصحابه إلا رهقًا، وها هي تلك التريليونات قد بذلت تحت قدمي ترامب من غير أن يجرأ أحدٌ أن يضع وقف الإبادة في غزة شرطًا لإنفاقه، هذا لو كان يريد أن يفعل ذلك من الأساس! فكان لـ«إسرائيل» التي تأخذ من ترامب ولا تعطي، القول الفصل في القضية، وكانت الغائبة الحاضرة، التي تساق إليها حصة من «الأنفال»، رغم تجنب ترامب زيارتها!
والشعوب تدرك بذكائها الفطري أن مشروع النهوض بالولايات المتحدة الذي يسعى ترامب لتحقيقه هو عكس مسار الدول الخليجية تمامًا؛ فطريقه هو إعادة توطين الصناعات والمصانع المهاجرة من بلاده بينما الخليج يمول بقاءه مستهلكًا مستوردًا للتقنيات، وهذا ما لا يتمناه ترامب ولا أي رئيس مخلص لبلاده.
وشعوب الجوار العربي، تابعوا أيضًا بأسى هذه المساندة الخليجية للدولة العظمى التي تحول بينهم والاستقرار سواء في ليبيا أم السودان أم اليمن، وتخنق بقية الدول العربية، تابعوا، ولا حقد ولا حسد يستبد بهم مثلما يردد الذباب الإليكتروني في كل تغريدة أو تعليق في وسائل التواصل، التي يكادون يحتكرونها بخوارزميات تطفح بهؤلاء ليسيئوا للشعوب الخليجية الأصيلة، حيث يظهرون كممثلين لرأيها العام زورًا وبهتانًا!
تريليونات قد صيروها خصمًا من رصيد المسلمين بتقوية عدوهم بدلًا من أن تستعمل في نهضتهم، لتقود بها دول الخليج حضارتهم، وتتصدر ثورتهم في وجه الاستبداد العالمي، فاستبدلوا المذلة بالعزة، والتبعية بالاستقلال، والذي هو أدنى بالذي هو خير!
ولو لم يقوَ هؤلاء على بناء مشروعهم المستقل، فلقد كان بوسعهم أن يحولوا دون استفراد الولايات المتحدة بمقاليد أمور العالم بينما تقوم دول بوضع استراتيجيتها الواعدة لمزاحمة الولايات المتحدة، فما أبأس أن تجد الصين نفسها تسبق الولايات المتحدة في زعامة الاقتصاد، ثم تعرقلها دول الخليج بساعتين!
وما أشد وقع هذا النزيف المالي على باكستان وإندونيسيا وماليزيا وتركيا والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية واليابان! وكأن الخليج قد أقسم على نفسه أن يجعل من نفسه جسرًا تعبر منه واشنطن إلى قمة الريادة الدولية بجعل شركاتها العملاقة دائمًا رابحة صاعدة، مرفودة بشلال هادر من المال بلا حساب ولا رقيب من «الحلفاء المخلصين»!
تريليونات قد صيروها خصمًا من رصيد المسلمين بتقوية عدوهم بدلًا من أن تستعمل في نهضتهم، لتقود بها دول الخليج حضارتهم، وتتصدر ثورتهم في وجه الاستبداد العالمي، فاستبدلوا المذلة بالعزة، والتبعية بالاستقلال، والذي هو أدنى بالذي هو خير!
كلما تحدثت الأرقام عن نزيف الاقتصاد «الإسرائيلي»، جاءه المدد العربي بطرق مباشرة وغير مباشرة، وكلما ركد الاقتصاد الأمريكي، ألقى الأتباع له بطوق النجاة، وكلما فرغت خزائن أسلحة قتلنا جاء من يدفع الأثمان ويضخ الأموال.
ولا نقول افتئاتًا ولا تحاملًا، فترامب نفسه قام خطيبًا متبجحًا بأنه قد أنقذ الاقتصاد الأمريكي الذي خربه سلفه بايدن بإنفاقه في حرب أوكرانيا نحو ٣٥٠ مليار دولار، بـ«حماقة» – كما يقول – مفتخرًا بأنه قد عوّض هذا، بالحصول على ٥.١ تريليون دولار من الخليج في ساعتين فقط!
ولم ينفق ترامب في المقابل دولارًا واحدًا، بل اكتفى بأن يوزع إطراءه على كل من يستقبله في الخليج، والأمر يسير جدًّا؛ فيكفيه أن يقول عن هذا وذاك بعد استنزافهم: قابلت رجلًا عظيمًا، حتى ينتشي مستقبله ويمنحه شيكًا على بياض!