طالعنا بيان الداخلية بقتل الأستاذ/تركي بن عبد العزيز الجاسر رحمه الله، والذي غيب منذ عام ٢٠١٨م، واختلفت الأنباء فيما أصابه، وخرجت الشائعات بأنه صفي تحت التعذيب في المعتقل منذ مدة.
وهذا مؤشر إلى ما كان يكابده، وعلى مستوى الشفافية حول المعتقلين في بلدنا!
من حق كل سجين أن يعرف عنه ذووه، ومن حقهم أن يعبروا عنها، ويتظلموا من ظلم نزل به، وأن يعترضوا على تجاوزات يشتكيها السجين لو كان هناك احترام لحكم الشرع، أو القانون، أو حقوق الإنسان!
أما في بلادنا فلا تسمع إلا بإعلان القتل فجأة، مسببًا بدعاوى مجملة مطاطة!
كحال بيان اغتيال الجاسر بسيف قضاة الجور، الموقوفين غدًا بين يدي حكم عدل.
وقد جاء بيان الداخلية هزيلاً متناقضًا، سبّب حكم القتل تعزيرًا بما وصفه بأنه: “(عدد) من الجرائم الإرهابية”، ثم لم يحسن أن يعد جريمتين إرهابيتين!
الأولى: جريمة الخيانة العظمى من خلال التخابر والتآمر على أمن المملكة مع أشخاص خارجها!
الثانية: تلقيه مبالغ مالية منهم بغرض تمويل الأنشطة الإرهابية، وتعريض الأمن الداخلي والوحدة الوطنية للخطر وزعزعة أمن المجتمع واستقرار الدولة”!
هاتان التهمتان المجملتان هما ذلك (العدد) من الجرائم الإرهابية!
إحداهما: فعل مجمل لو صح وثبت فلا علاقة له بالإرهاب!
والثانية: محاسبة على نية الإرهاب!
هل رأيتم في عالم الجور، والذي يستر أكابر المجرمين سوآتهم فيه بمنديل حرب الإرهاب! هل رأيتم من يعتبر حسابًا على وسيلة تواصل ينشر رأيًا مجردًا فعلاً إرهابيًّا؟!
هل قتل صاحبه؟ هل فجر؟ هل قطع طريق؟! اللهم لا! ولو كانت صناعة الرأي الباطل جريمة إرهابية فأحق الناس بها مؤسسات إعلام رسمية ! تُبذل فيها أموال البلاد وتُهدر فيها مقدراتها تناغمت مع عدونا مرات كثيرة ضد أصولنا وثوابتنا، ثم يأتيك أرعن ليتَّهم أمثال الجاسر بتلقي أموال! ياللهول جاءته أموال!
ومع علم القاصي والداني بأنه صحفي، غاية أمره عمل إعلامي، يزعمون أنه أقر على نفسه فيما زعم البيان بأن تلك الأموال لكي يعرض الوحدة الوطنية للخطر، ولكي يزعزع أمن المجتمع، ولكي يزعزع استقرار الدولة! كأنك تتكلم عن كوماندوز أو فريق انتحاري لا عن صحفي كل عتاده قلم ورأي!
ثم : هل زعزع الاستقرار؟ أرونا تلك الزعزعة! هل تعرضت الوحدة الوطنية للخطر؟! أرونا ماذا فعل؟! سمُّوا وقائعَ يصحُّ أن يسبَّبَ بها ذلك الحكم! لا شيء يثبت ليذكر! اللهم إلا بالنيِّة المزعومة على ما كان يود صنعه بتلك الأموال! فهل سمعتم بقتل مجرمين على نياتهم إلا في السعودية؟! ألا يستحي مسلم من نسبة ذلك الظلم إلى دين الله وحكم الشرع!
هب زيدًا نوى أن يسرق فلم يسرق، أو نوى عمرو أن يقتل زيدًا فلم يفعل! في أي دين أو نظام يسوِّغ ذلك قتله أو قطع يده!
وهب هذا يريد زعزعة الأمن ولم يزعزعه، أفيجوز أن يقتل بنيته تلك؟!
وكيف عُرفت تلك النية وأثبتت؟ هل شهد عليه بها من أفضى بها إليه؟ كلا! زعموا بإقراره.
هل رأيتم في عالم الجور، والذي يستر أكابر المجرمين سوآتهم فيه بمنديل حرب الإرهاب! هل رأيتم من يعتبر حسابًا على وسيلة تواصل ينشر رأيًا مجردًا فعلاً إرهابيًّا؟!
ولك أن تتساءل عن عاقل يقر بأنه تلقى أموالاً يريد بها الإرهاب! تحت أي ظرف يمكن أن يقرَّ على نفسه بأنَّه يريد أن يزعزع الأمن، ويمول أنشطة إرهابية!
هل يكون هذا إلَّا تحت ظروف تعذيب وضغط نفسي، قد علم كل متابع تكرر الشكوى منها في مذكرات دفاع العتقلين؛ كقول أحد فضلائهم – وقد توفي رحمه الله ورفع درجته وتجاوز عنه-: “إن ما ورد على لساني من إقرارات بأني كتبتُ تغريدات بهدف إثارة الفتنة وكسب تعاطف المتابعين، أو أني محسوب على جماعة أو تيار مخالف؛ فكلها إقرارات غير صحيحة، أُخذت مني بالإكراه، ووَقعت عليها تخلصًا من الضغط النفسي والجسدي الشديدين”! هذا من جملة نصه في دفاعه الذي كانت حجته فيه بالغة!
وكذلك الجاسر رحمه الله فإنه قد سُجن واختفى قسريا، وظهر في سجنه حرمانه من أيسر حقوقه، فلا حس ولا خبر، ولو لم يكن ذلك فقد قال عمر رضي الله عنه: “أربعٌ كلهن كره: السجن، والضرب، والوعيد، والقيد”، وفي لفظ: “ليس الرجل بأمين على نفسه، إذا سُجن، أو أُوثق، أو عُذب”.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: “ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلا كنت متكلِّمًا به“، وعد السجن من الإكراه مذهب الجمهور.
ولئن كان قديمًا قبل عقود يقع ما ذكره مفتي الديار ابن إبراهيم في قوله: “المعروف من إجراءات الشرطة في مثل هذا وما هو أقل منه أنها تسلك وسائل التعذيب والتهديد مع المتهمين حتى يعترفوا تحت الضغط، لاسيما وهو سجين عندهم، ولا يخفى أن مثل هذا دلالة واضحة على الإكراه، وقد ذكر الأصحاب رحمهم الله أنه إذا كان هناك دلالة على الإكراه كقيد وحبس وتوكّل به أن يكون القول قول مدّعي الإكراه مع يمينه” [فتاوى ابن إبراهيم13/74].
فاليوم تطور ذلك في الجزائية المتخصصة، فغدوا منذ سنوات يأتون بقاضٍ إلى المسجون ليصدق ذلك الإقرار في مكان انتزاعه وتعذيبه! في تواطؤ قبيح مع الجلاد والسجان!
واعتراف ينتزع تحت الإكراه حقيق بتهمة الإرهاب مَن أثبته، ومن حكم به وصدَّره، من الجناة القضاة…هو قتل نفس مسلمة عمدًا، وبعد حبسها وترهيبها.
في كبت لواحدة من الحريات العامة في دساتير العالم وأنظمته كافة، وهي التعبير عن الرأي! المندرجة ضمن المطالب الشرعية بالحقوق الدنيوية أو الدينية.
كان للجاسر رحمه الله حسابٌ رسميٌّ، ونسب إليه بعد فضيحة تجسس من موظفين في تويتر قديمًا، حساب (كشكول)، الناقد للأوضاع السياسية والداخلية، وقد حذف بعض القبض عليه.
فهبه أقر بكل ما فيه طواعية، أتراه زعزع استقرار دولة، ما الجريمة الإرهابية التي اقترفها؟! قولوا بواقعة محددة وعلم وذروا التلبيس بالمجملات.
لو وجَدَ كاتب البيان فعلاً يثبته لذكره…لكنه على طريقة تهم الجزائية المتخصصة الواسعة الفضفاضة المعتمدة على أفسد التأويل…أسماء عريضة لا حقيقة لها، ينزلون عليها أحكامًا ثقيلة! مبنية على فساد في الاعتقاد قائم على تقديس غير المقدس، وتعظيم الفاسق الجائر، وتقديم طاعته في غير المعروف، وتحريم ما أمر الله به من الإنكار عليه، بل مع الإنكار والأذية لأفضل المحتسبين القائلين كلمة الحق لذلك الجائر، متعبدين إلى الله بذلك المحرم من أذيتهم!
فالقدح بل والنقد في وزير أو أمير أو كبير كبيرة عند هؤلاء الغلاة الخوارج على الدعاة وأهل الفضل، يسوِّغ عندهم أن يعبر عنه بزعزعة الأمن، وشق اللحمة الوطنية، والإرهاب!إلى آخر تلك التهم الكبيرة، التي يختزل المجرمون القضاةُ فيها الوطنَ في مجرِم متسلِّط على الرِّقاب! مقرر العلماء من المذاهب كافة جواز عزله مع القدرة! فيجعلون من تعرَّض له بقول وطرف من كلام يستحقه قد شقَّ اللُّحمة الوطنية! وفرق الجماعة، وأقام الساعة!
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: “ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلا كنت متكلِّمًا به“، وعد السجن من الإكراه مذهب الجمهور.
ولو كان قد خرج عليه بسيف لكان ما يستحقه في شرع الله أن ينكر عليهما، على الحاكم ظلمه، وإثارته الناس، وعلى هذا تركه المصلحة.
أما الكلام فحقه، كان الواجب أن يقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالًا!
وفي دين الله لو قدر الجاسر مسيئًا بسبٍّ وشتم محض ظُلمًا لإمام عدلٍ، لما جاز قتله، وغايته أن يؤدب، وحتى التأديب تَرَكَه للمصلحة أعلام الجيل الأول من هذه الأمة.
فعن أبي بَرزة الأسلمي، قال: أغلظ رجل لأَبي بكر، قال: فكدت أقتله، قال: فانتهرني أَبو بكر، وقال: ليس لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا أبو بكر الذي تواتر فضله، فكيف بمن دونه، فكيف بمن قيل فيه بشبهة أو بحقٍّ!
فكيف بمن يتسامح مع من سبَّ الله تعالى، وسبَّ نبيه صلى الله عليه وسلم، وسبَّوا كرام الصحابة، ثم يُقتل تعزيرًا من انتقده بجور أو حق!
ثم جريمة الخيانة العظمى ما هي؟ وما تفسيرها؟
تخابر مع من؟ وأخبرهم بماذا؟! وماذا يعرف صحفي من عامة المسلمين من الأسرار الخطيرة التي لا يعرفها الناس ليذيعها! ما الذي عند الجاسر ولا تعلمه الدول من أسرار الدولة السعودية التي أذاع بها الجاسر؟! من محدود التفكير الأهبل الذي يقبل مثل هذا؟! ثم على فرض تواصله مع سفارة دولة مسلمة أخرى، أفيكون هذا كمن راسل المشركين يخبرهم بتحرك جيش المسلمين لغزوهم؟!
في أي كتاب أو بأية سنة يُقتل مثل هذا؟
هذا وفي البلاد عملاء سفارات -كما قالها أحد الأمراء-، يجلسون مع موجهي دول أجنبية كافرة، ويدعونهم ليلاً ونهارًا، سرًّا وجهارًا، فيوصونهم بما يفعلون، ويكلفونهم بما يريدون، ويقولون وينشرون! وهؤلاء يكرمون، ويستقوون بتلك الجهات، والواحد منهم وإن كان مسيئًا في حكم الشرع، لا يبلغ به ذلك حد القتل، حتى يدان بما يوجبه…والواقع أنهم من أبعد الناس عند الدولة عن القتل بل يطلقون وإن كادوا الدولة؛ إذ تحمر لسجنهم أنوف!
ولكننا في زمن العجائب حيث تقلب الحقائق! فيترك الجواسيس، ويسمى الوطني جاسوسًا، والخبيث المتجسِّس هو الوطني!
إن مشكلة تركي الجاسر الكبرى أنه مواطن يأسى لحال وطن يقوده منقادون لما يريده الخارج! لا يعبؤون بإرادة الداخل، لم يجعلوا للغرب حاجة في جاسوس، يتكلفون ثمنه، حتى تنفذ أجندتهم! يكفي الغرب اليوم وجود شرذمة مستعدة لبقاء عروشها ومناصبها أن تدفع لتبقى، وتبذل مقدرات الوطن ليرضى عدوه!
ووالله لن يرضى، وأحب إلينا أن يدركوا هذا اليوم، ويعتبروا بالتاريخ القريب والبعيد، فيصالحوا شعوبهم، ويعولوا بعد الله عز وجل عليها…وأن يضعوا نصب أعينهم، أن فريضتهم الشرعية، ووظيفتهم القانونية هي خدمة الشعب لا أن يخدمهم الشعب، هم وكلاء عليهم تنفيذ ما يريده الشعب، لا أمر الشعوب أن تتعبد بتنفيذ أهوائهم وآرائهم!
فإن هذه سياسة القنبلة الموقوتة التي يغذيها العدو، فإذا حانت فرصة أشعلها لتنفجر تلك المظالم، وذلك الكبت، فيدمر حينها البلاد ومن عليها.
سلم الله البلاد وأهلها، وهدى ضالها، وانتقم للمظلومين فيها، وكف أيدي الظالمين عنها، وانتصر منهم..آمين.