ولاية الأمر: النص والممارسة…1

لماذا نعيد فتح الملف؟

ما من مصطلحٍ فقهيٍّ نُهِبَ لصالح الخطاب السياسيّ كما نُهب مصطلح «وليّ الأمر»؛ به أُقيمت قبابُ الطاعة للمستبدِّ، وبه هُدمت مرجعيَّة الشريعة، تضخَّم الحاكم أحيانًا إلى «إلهٍ صغير» لا يُسأل عمَّا يفعل، فإذا جأر صاحب الحق قالوا:اسكت فالطاعة من الدين! ولو جلد ظهرك! والخروج يحصل بالنية!

وحين يثور الشارع من الظلم يتهجَّم آخرون على الفقه كلِّه فيلغون حاجة الجماعة إلى إمامٍ يُقيم الدين ويحفظ النظام. وبين الإفراط والتفريط ضاعت الوظيفـة التي أجمع عليها فقهاء السياسة الشرعية: حراسةُ الدين وسياسةُ الدنيا به!

والمتأمل لواقعنا المعاصر يجد أن أُسس الولاية قد غُيبت وبُدلت، ووقع تأصيل الانحراف وتحريف الأصل تحت ضغط الواقع وتبعية العالم، فغاب عن الناس في الولاية:

  1. أنها تكليف لا تشريف: فالإمامة عقدٌ مشروط بإقامة الشريعة والعدل وصيانة المصالح العامَّة، لا صكَّ تفويضٍ مفتوح يورث ويُورَّث!
  2. أن الطاعة فيها مقيّدة: ف«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وهي القاعدة التي تهدم التأليه وتبقي الطاعة في حدود «المعروف».
  3. أن المساءلة حقٌّ للأُمَّة: فالبيعة تعهّدٌ متبادل؛ فإذا نقض الحاكم شرط الشرع ، سقط موجب الطاعة.

وحين يثور الشارع من الظلم يتهجم آخرون على الفقه كله فيلغون حاجة الجماعة إلى إمام يقيم الدين ويحفظ النظام. وبين الإفراط والتفريط ضاعت الوظيفة التي أجمع عليها فقهاء السياسة الشرعية: حراسة الدين وسياسة الدنيا به!

كما طرأ على المجتمعات وسائسيها في العصر الحديث انحرافات عدة صنعت وقننت الاستبداد بتشريع منحرف لا يوافق أصل الدين ولا يحافظ على ضرورات أسوياء الإنسان والمسلمين، ومن ذلك:

التأليه الناعم: بإلصاق أوصاف العصمة ومطلق الأحقية والقرار بالحاكم وتجريم النقد بوصفه خيانة دينية قانونية يحاكم الناس من خلالها بقوانين الإرهاب؛ فتتحول الطاعة إلى عبودية!

قداسة الإجراءات والتقنين: بتمرير قوانين تناقض الشريعة عبر مؤسّسات شورى صوريّة، بزعم أنها «قانونيّة»؛ يقننون الظلم والتعبيد والتجريم بما لم يأذن به الله، ولا تقبله الفطرة السليمة، وإنما فقط يتناغم كلية بمراد الحاكم الإله!

تجميد عقد البيعة: تصوير البيعة التزامًا أبديًّا بالوراثة والنطفة والسيف! والالتزام بموجبات العقد مسؤولية طرفٍ واحد، بينما هي عقدٌ تبادليٌّ ينقضه سقوط ركن الشرع أو العدل.

هذه الانحرافات لا تنتج ظلمًا سياسيًّا واقتصاديًّا فحسب، بل ظلمًا شرعيًّا يزعزع ثقة الناس بالدين ذاته، إذ يرون النصوص تُستدعى لحراسة القهر والإذلال والاستبداد لا لكسر شوكته.

بين الشرع والنظام:

في الدول المسلمة كالسعودية مثلًا ينص النظام الأساسي للحكم على أن «الحكم يقوم على العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلاميّة»؛ نصٌّ يكسر الذريعة القائلة: إنّ المحاسبة تهديد للاستقرار! فالاستقرار الحقّ يتأسّس على عقدٍ دستوريٍّ تراقَب به السلطة وتُقَيَّد.

لكنّ النصوص لا تُنزل نفسها على الواقع؛ فقد التبس الأمر و اختلطت أحاديث الصبر على جور إمامٍ يُقيم الدين، بحال حكّامٍ عطلّوه أو أبعدوه أو حاربوه!

والخلط هنا خطير: فصبرُ الفقهاء كان على ظلمٍ جزئيٍّ لا يُبدِّل المقصد و لا على تبديل الشريعة وإلغاء بابها. يقول ابن تيمية:
«جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كلُّه لله». فإذا بدّل الحاكمُ الشريعةَ أو وهنَ سلطانُها، فقد خرج على مقصود الولاية، ولا يستره إعلامٌ ولا هيئة بيعة أو هيئة علماء اختارها بنفسه وأغدق عليها المخصصات!

لماذا نعود إلى ملف ولي الأمر الآن؟ نعود إليه اليوم لما نلحظه من:

أولا: ازدواج الخطاب: حيث تُستدعى الآيات والأحاديث حين تُطلَب الطاعة، وتُهمَّش حين تُخالف سياسات السلطة الشريعةَ وتصادم نصوصها عيانًا بيانًا!

ثانيا: غياب المساءلة: حيث تغوَّلت السلطة التنفيذية على التشريع والقضاء، وعلى العلماء وأهل الرأي، وتراجعت وظيفة «الشريعة» إلى نصوص شكلية في الكتب وتراث الدول يقرؤه المختص وينقضها الواقع!

ثالثا: تجذّر الفوضى أو القداسة: فأصبح الناس بين استبدادٍ مطلَق يفسد الدين والدنيا، وفوضى بلا ناظم بسبب من هرب من الحالة الأولى وحاربها، وكلاهما يفتّ في عضد الأمم وجماعتهم.

هذا المقال استفتاحٌ مستقلّ لسلسلةٍ تعيد مفهوم وليّ الأمر إلى موقعه الأصلي؛ لا لتسويغ الاستبداد ولا لإشاعة الفوضى، بل لتوازنٍ يربط الحاكم بسلطان الشرع والدستور، ويربط الأُمَّة بحقِّها في المحاسبة والحريّة المسؤولة.

وتنتظم هذه السلسلة أربعة معايير:

  1. النصُّ الشرعيُّ ومقاصده الكليِّة.
  2. تجارب التاريخ وأقوال الأئمّة.
  3. الواقع القانونيُّ للدولة الحديثة.
  4. المصلحة العامَّة التي تدرأ الفتنة وتحفظ الحقوق.

قال تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» (النساء: 58). فهذه الآية تضع أمانة الحكم قبل أمر الطاعة، وتعيد الميزان إلى نصابه: ولايةٌ مقيّدة، وطاعةٌ في المعروف، ومحاسبةٌ عدلها من صميم الدين لا من خارجه.

إلى أين نمضي؟

في المقال الثاني: «من هو وليُّ الأمر الذي تجب طاعته؟»، سنفصِّل شروط انعقاد الإمامة، وحدود الطاعة، والفوارق الحاسمة بين جورٍ يُحتمل وانقلابٍ يُسقِط الشرعيّة، مستندين إلى نصوص الوحيين وعمل الراشدين وتراث الأئمة الأعلام والعلماء الربانيين كابن تيمية والقاضي أبي يعلى والقاضي عياض وغيرهم، وموازنين ذلك بمعطيات الدولة الدستورية. والهدف من ذلك أن نكسر حلقة التقديس الزائف، ونُعيد عقد البيعة إلى صيغته: مهمّةٌ مقيَّدةٌ بالشرع، لا تفويضٌ مطلق على رقاب العباد.

بهذا الميزان ندعو القارئ إلى حوارٍ يُقارب النصَّ بالواقع، ويردُّ الطاعة إلى شرطها، والولاية إلى غايتها: خدمة الشريعة والإنسان، لا تأليه المستبدّ ولا هدم الدولة.