ما زال حديثنا متَّصلًا عن فتيا الشيخ صالح الفوزان-ختم الله له بالخير-، تلك الفتيا التي أوجب فيها محبَّة وليِّ الأمر، وجعل كراهيته علامةً على النفاق وروح الخوارج!
الشيخ في فتياه التي نقلنا نصَّها في المقالة السابقة ربط ولازم بين الدعاء للولاة والملوك بالهداية والصلاح وبين محبَّتهم ومودَّتهم، وإذا كنا في مقالتنا الأولى وضعنا قوله في مواجهة قول الإمام أحمد بن حنبلٍ، ففي هذه الكرَّة سنقابل كلامَ الشيخ بكلام عالمين اثنين غير بعيدين عن الشيخ مكانًا وزماًنا، وإن كانا أعلى رُتبةً منه.
وسنبدأ أولًا بعالمٍ في درجة شيوخ مشايخ الفوزان. ففي تنبيهٍ وتحذيرٍ للشيخ عبد الله أبا بطين النَّجدي المتوفى سنة (1282ه)، قال رحمة الله عليه: (وليُّ الأمر إنما يُدعى له، لا يمدح، لا سيما بما ليس فيه. وهؤلاء الذين يمدحون في الخطب هم الذين أماتوا الدين، فمادحهم مخطئٌ، فليس في الولاة اليوم من يستحق المدح ولا أن يثنى عليه، وإنما يدعى لهم بالتوفيق والهداية) (الدرر السنية (5/40)).
هذا التقرير العلميُّ الحصيف فيه أن الولاة الذين كانوا في زمن الشيخ (القريب من زماننا) ليس فيهم من يستحق أن يمدح، وفيه أيضًا أن مادحيهم هم الذين أماتوا الدِّين، فما عسى ذاك الشيخ يقول لو سمع من يقول: إن محبَّة أولئك واجبةٌ على العباد، وأن كراهتهم علامةٌ على النفاق وروح الخوارج؟!
وإذا جاوزنا الشيخ أبا بطين، وصعدنا قليلًا إلى درجة شيوخه، سنجد كلامًا أقوى وأعظم وأثقل، كتبه أستاذه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1242ه)، ردًّا على أحد علماء الزيدية لما اتهم أهل السنة بموالاة الدول الجائرة، وزعم أنهم كانوا يحبُّون ويتولَّون بني أمية في زمانهم، وأنهم استمروا على ذلك بعد انقراض دولتهم، فكتب الشيخ عبد الله جوابًا استعظم فيه تلك التهمة وأنكرها وبرَّأ أهل السنة منها، وذكر أنَّ أهل السنة: (لم يتولَّوا الدول الجائرة كما ذكره هذا المعترض، بل هم يبغضونهم ويكرهونهم، ويُسمُّونهم ظلمة وأئمة جور، وإنما أوجبوا طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله) (جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية (ص79)).
ومما ذكره الشيخ أن (كثيرًا من أهل الشام -من العلماء وغيرهم-يُبغضون أئمة الجَور من بني أمية، ويطلقون ألسنتهم بذمِّهم والطَّعنِ عليهم…قال: ولو ذهبنا نذكر كلام علماء الشام -من المتقدِّمين والمتأخِّرين-في ذمِّ بني أمية والطعنِ عليهم لطال الكلام جدًّا) (جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية (ص128)).
فهذه الصورة التي يحكيها الشيخ عبد الله عن السلف، تخالف الصورة المناقضة التي نسبها لهم الشيخ صالح الفوزان!
وحقائق التاريخ هنا هي الحكم، فمواقف السلف وكلامهم في ذمِّ ولاة بني أمية وبني العباس أكثر من أن يُحاط بها، وعباراتهم في هذا لا تَقبل أن يُنسبوا إلى محبَّتهم ومودَّتهم، كيف وقد بلغ نفورهم منهم حدَّ كراهة السلام عليهم؛ فقد صح عن الصحابي الكبير جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه قال: (دَخَلْتُ عَلَى الْحَجَّاجِ فَلَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْهِ) (رواه ابن أبي شيبة (32600) وأبو بكر المروزي في أخبار الشيوخ (76) بسندٍ صحيحٍ).
ودخل محمد بن سيرين على الأمير عمر بن هبيرة، فلم يسلِّم عليه (رواه يعقوب بن سفيان (1/720) في المعرفة والتاريخ بسند صحيح).
بل قد صحَّ عن التابعي الكبير طاووس بن كيسان، تلميذ ابن عباسٍ، أنَّ الوالي أتاه فدخل وسلَّم عليه، فما رفع له رأسه ولا كلَّمه (رواه أبو بكر المروزي في أخبار الشيوخ وأخلاقهم (10) بسند صحيح).
وعلى طريقة هؤلاء قال الثوري: (دخلت على أبي جعفر فلم أسلم عليه) (رواه أبو بكر المروزي في أخبار الشيوخ وأخلاقهم (69) بسند صحيح).
وقال -أيضًا-: (دخلت على المهديِّ فلم أسلم عليه) (رواه يعقوب بن سفيان (1/720) في المعرفة والتاريخ بسند صحيح)، مع أن المهدي كان من أعدل ملوك بني العباس، وكان يُكرم أهل العلم ويتتبع الزنادقة ويبطش بهم، قال عنه الذهبي: (كَانَ جَوَاداً، مِمدَاحاً، مِعْطَاءً، مُحَبَّباً إِلَى الرَّعِيَّةِ، قَصَّاباً فِي الزَّنَادِقَةِ، بَاحِثاً عَنْهُم) (سير أعلام النبلاء (7/401))، ومع هذا فالإمام الثوري لم يكن يراه أهلًا لأن يُسلّم عليه!
ونقل أبو طالب المشكاني (أحد كبار أصحاب الإمام أحمد بن حنبل وخواص تلاميذه) أنه سأل الإمام أحمد عن الرجل من أهل السنة تكون له حاجةٌ عند السلطان، فهل يسلم إذا دخل عليه لتحصيل حاجته، فقال الإمام: (نعم، لعله يخافه، يداريه) (الآداب الشرعية (3/177)).
وحقائق التاريخ هنا هي الحكم، فمواقف السلف وكلامهم في ذمِّ ولاة بني أمية وبني العباس أكثر من أن يُحاط بها، وعباراتهم في هذا لا تَقبل أن يُنسبوا إلى محبَّتهم ومودَّتهم، كيف وقد بلغ نفورهم منهم حدَّ كراهة السلام عليهم؛ فقد صح عن الصحابي الكبير جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه قال: (دَخَلْتُ عَلَى الْحَجَّاجِ فَلَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْهِ) (رواه ابن أبي شيبة (32600) وأبو بكر المروزي في أخبار الشيوخ (76) بسندٍ صحيحٍ).
فليتأمل مريد الفهم في هذه الفتيا وما فيها من الفقه: فأحمد لم يأذن للرجل بالسلام على السلطان إلا لأجل الخوف والمداراة فقط! فلو لم يكن ثمة خوفٌ فالأصل ألَّا يسلم عليه، لأنه-عند أحمد-ليس أهلًا لأن يُسلَّم عليه، دع عنك المحبَّة والمودة!
وليلحظ-أيضًا-أن السائل نفسه كان قد استقر عنده أن السلاطين وولاة الجَور لا ينبغي أن يُسلَّم عليهم، فلذلك احتاج للسؤال عمَّن احتاج لمداراتهم لقضاء حاجةٍ له عندهم.
فمن الذي ربَّى هذا الرجل من أهل السُّنة على هذه النظرة؟ أهم الخوارج؟!
وفي تأكيد قول أحمد يقول النووي: (…فإن اضطرَّ للسلام على الظَّلمة بأن دخل عليهم وخاف ترتُّب مفسدةٍ في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يسلِّم سلَّم عليهم) (الأذكار (ص255)).
وإذا جاوزنا مسألة السلام، وتحولنا إلى مسألة أخرى وهي مسألة الدعاء لهم بطول البقاء (أطال الله بقاء الأمير)، نجد في الأئمة من كان يمنع من الدعاء لولاة الجَور بهذا؛ لأن طول عمر الظالم يعني وقوع المزيد من الظلم، فلذلك جاء عن الإمام الكبير سفيان الثوري وعن الزاهد العابد يوسف بن أسباط أنهما كانا يقولان: (من دعا لظالمٍ بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله) (حلية الأولياء (7/46)، (8/240))، وجاء نحو ذلك عن التابعي الحسن البصري (رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (600)، والبيهقي في شعب الإيمان (12/41)).
ومن تدقيقات الإمام الثوري في هذا الباب أن رجلًا جاء يسأله، فذكر له أن بعض السلاطين استأجروه فبنى لهم بناءً في مدينة جدَّة، فعاب الثوري على الرجل قبول ذلك، وقال له: (ألستَ تمنَّى بقاءهم إلى أن يعطوك أجرك؟!). يقول الإمام أبو حاتم الرازي شارحًا كلام الثوري: (يعني كم ظلمًا يجري الله على أيديهم إلى أن تقبض أجرك؟!) (الجرح والتعديل (1/124)).
فهذا الإمام القدوة يخشى على هذا الرجل أن تتسرَّب إلى قلبه محبَّة طول بقاء الوالي، فكيف سيكون رأيه لو أدرك من يوجب محبَّة الوالي، أو يجعل كُرهه علامةً على النفاق؟!
وليُلحظ هنا أيضًا أن الرجل هو الذي جاء سائلًا مستفتيًا، وما سأل إلا لأجل ما استقرَّ عنده من أن الأصل عند الأئمة التباعد عن هؤلاء وتحاشي معاملتهم!
واختيار هؤلاء القدوات ترك السلام على الولاة يدلُّ على أنهم حين اختاروا التباعد عنهم وتَرْكَ مداخلتهم لم يفعلوا هذا فقط خشية الفتنة بهم وبدنياهم، بل ههنا سببٌ آخر ظاهرٌ، وهو أنهم كانوا يرونهم أهلًا للهجر الشرعي الذي يُعامل به كبار العصاة والمفسدين!
وقد بلغ الحال بمثل الإمام الثوري أنه كان يكره دخول بغداد لكونها دار الخلفاء والأمراء، وكان يقول: (المتعبد ببغداد كالمتعبد في الكنيف!) (تاريخ بغداد (1/36)، (1/351)، والكنيف: مكان قضاء الحاجة، وهو ما نسميه اليوم: الحمَّام)، ولما سُئل تلميذه الخُريبي عن تفسيرٍ لكلام شيخه، قال: (كان يكره جوار القوم). وقد صحَّ عنه وعن الإمام العابد بشر بن الحارث أنهما كانا يقولان: (النظر إلى وجه الظالم خطيئة) (المجالسة وجواهر العلم (371)، (372)، (2372)، والطيوريات (1000)).
فهذا الإمام الذي يكره جوار القوم، أكان يحبُّهم ويودُّهم؟!
وإذا كان يرى النظر إلى وجوههم خطيئة، فهل سيجعل حبَّهم قُربةً وسُنَّةً؟!
نعود للإمام أحمد بن حنبل، فنراه يُسأل عن إبراهيم بن موسى الهروي فيقول: (رجلٌ وسخٌ). فقيل له: (ما قولك: إنه وسخٌ؟). قال: (من يتبعُ الولاة والقضاة فهو وسخٌ) (الآداب الشرعية (3/476)).
فإذا كان من يتبع ولاة الجور وقضاتهم وسخًا، فمن أين جاءه الوَسَخُ؟!
وهذا الرجل الوَسِخُ وسيِّدُه الذي وسَّخه، هل هم أهلٌ للمحبَّة والمودَّة؟!
امتدادًا لهذه المواقف المتكاثرة عن أئمة السلف الأوائل، نجد الإمام الحنبليَّ شمس الدين ابن مفلح، يبحث في حكم الدخول على السلاطين ثم يقول: (يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ بُغْضَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ؛ فَلَا يُحِبُّ بَقَاءَهُمْ، وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ، وَلَا يَسْتَخْبِرُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَتَقَرَّبُ إلَى الْمُتَّصِلِينَ بِهِمْ، وَلَا يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا يَفُوتُهُ بِسَبَبِ مُفَارَقَتِهِمْ) (الآداب الشرعية (3/479)).
فمع تلك المواقف الصارمة من أولئك الكبار، ماذا بقي لمن يَنسبُ للسلف إيجابَ محبِّة الولاة، أو يجعل كراهتهم علامةً على النفاق؟!
القدر الثابت عن الأئمة في حقِّ ولاة الجَور (ما داموا في دائرة الإسلام)، إنما هو الأمر بالصبر على ظلمهم والحثُّ على طاعتهم إذا دعوا إلى خيرٍ ومعروفٍ!
والأئمة إذا أَمروا بالصبر على الظالم لا يفعلون هذا محبَّةً وموالاةً له، بل شفقةً على الناس من بطشه، وخوفًا عليهم من فتنة تذهب فيها دماؤهم وأموالهم، وهو المعنى الذي جاءت السنة بمراعاته حين أمرت بالصبر على ما دون الكفر! لكن الصبر شيءٌ والمحبَّة شيءٌ، بل إن كلمة (الصبر) نفسها تتضمَّن الكراهة والبغض، وإلا فما معنى أن يؤمر أحدٌ بالصبر على ما يحبُّه؟!
ومتى اجتمع الصبر على الظالم مع كُرهه والنفرة منه، أثمر ذلك بصيرةً ووضوحًا في الرؤية، وحصانةً من الموافقة على الظلم وإقراره. أما إن تحوَّل الصبر إلى محبَّةٍ ومودَّةٍ، فإن الثمرة تكون خروجًا عن حد التوسط والاعتدال، واختلالًا في الموازين، وتضييعًا للقسط الذي أمر الله به، فلذلك نرى كثيرًا ممن سلك هذا الطريق يُعظم فضائل الحاكم ويُفخِّمها، ويُصغر جناياته ويُقلِّلها، ثم إذا التفت إلى الضفة الأخرى، ورأى من يُجرِّمهم الحاكم من أهل الديانة والعدالة، انطلق يُعظِّم أخطاءهم ويُصغِّر فضائلهم! وهذا الخلل في الموازين لا يقع إلى مع انحرافٍ في ميزان الحبِّ والكُره القلبي.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا:
كيف وقع الشيخ صالح الفوزان في مثل هذا اللبس؟!
يُخطئ كثيرًا من يفسر هذه النوع من الفتاوى دائمًا بدافع التزلُّف والنفاق، والشيخ صالح الفوزان-فيما أعرف-ليس من هذا الصنف من الناس، لكنه واقعٌ تحت تأثير ذلك الانحراف المنهجي الذي نتحدث عنه، والشيخ على أي حالٍ ليس استثناءً نادرًا، فهناك طائفة من صالحي حملة العلم ومتزهديهم لم يُحرِّروا مسائل هذا الباب، فوقع في كلامهم مثل ما وقع من الشيخ، لكنا لم نشأ هنا سوق المزيد من الأسماء، وإنما احتجنا للتمثيل بالشيخ لكثرة ما يقع في كلامه من مثل هذه الإطلاقات والمجازفات، وقد يكون لنا وقفاتٌ أخرى قادمةٌ مع أصنافٍ أخرى من فتاويه، ختم الله له بالصالحات.
وما لا يعرفه الكثيرون: أن الشيخ نفسه وبسبب الفقه الذي سبق أن نظَّر وقعَّد له، انتهى به الحال اليوم إلى حالةٍ من الحجر والمنع من الإفتاء، فقد أُوكل به رجلان من أمن الدولة، يلازمانه ويصحبانه حيثما ذهب، حتى عند صلاته في المسجد، ويمنعان الناس من طرح الأسئلة عليه خشية أن يُفلح أحدٌ في انتزاع فتيا منه تنتقد مظاهر الانحلال التي باتت تشيع في البلد ضمن مشروع الإفساد الكبير!
فحسب تصورات الشيخ وتأصيلاته التي عُرفت عنه في تفخيم أمر الحاكم: أظنه لو سُئل قبل ذلك عن الحال التي يخضع لها الآن، لأجاب بأن وليَّ الأمر إذا رأى المصلحة في منع أحدٍ من الإفتاء فله ذلك!
فقد رأينا الآن ورأى الشيخ مآل مثل هذه الفتاوى، والله المستعان.