مباحث ومقالاتٌ في السياسة الشرعية (1)
لم يكن علماء الشريعة يومًا بعيدين عن البحث والنظر في الأحكام الشرعية المتعلقة بالسياسة، ولو أرادوا ذلك ما استطاعوا؛ إذ إنَّ دين الإسلام ليس دين رهبانيّة ُيربَّى أهله على الفصل بين عبوديَّتهم لله وبين ما يتعيَّن عليهم التزامه في إدارة شأنهم الدنيوي.
والدارس الحصيف لا تخطئ عينه حقيقة أنَّ أحكام الشريعة الإسلاميّة – وإن تعلَّق كثير منها ببيان أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج ونحوها من العبادات – إلا أنَّ أكثرها يقعُ خارج هذه الدائرة
فالنصوص والأحكام الفقهية المتعلقة بتنظيم دنيا الناس ومعايشهم وعلاقاتهم أكثر وأوسع من الأحكام التي جاءت لبيان تفاصيل عباداتهم المحضة، ومن أراد أن يتحقّق من ذلك فما عليه إلا أن يلقي نظرةً على فهرسٍ لأي كتابٍ في الفقه الإسلامي.
ومن جملة الأحكام الدنيوية التي جاءت الشريعة ببيانها وضبطها وتنظيمها تلك المتعلقة بالجانب السياسي من حياة المسلمين من مثل: أحكام البيعة، وشرعية الولاية، وتصرفات الولاة، وحدود طاعتهم، وتصرفاتهم في بيت المال، وأحكام الحرب والسلم، وحقوق المسلمين على حكامهم، وحقوق حكامهم عليهم، ونحو ذلك من المسائل الجليلة.
وحين أقول إن علماء الشريعة لم يكونوا بعيدين عن فقه هذه المسائل، فلست أتحدث هنا عن تلك المواقف الشجاعة الاستثنائية التي خلدها التاريخ لبعض أكابر العلماء في وجه سلاطين الجور، وإنما حديثي هنا عن التأسيس النظري لتلك الأحكام الذي أولاه علماء الإسلام عنايتهم، وفصَّلوه في مصنفاتهم إيمانًا منهم بأهميته ومكانته.
والأحكام الفقهيّة والعقديّة المتصلة بالسياسة الشرعية مهما تحدثنا عن أهميّتها وعن أثرها في حياة الناس عبر التاريخ، فإنَّ من المؤكَّد أنَّ منزلتها اليوم قد زادت وتعاظمت، بعد بروز ظاهرةٍ عصريّةٍ لم تكن موجودة في الأزمان السّالفة، أعني ظاهرة (تغلغل الدولة في حياة الناس)، أو ما يسمى في حقل العلوم السياسيّة بظاهرة (تغوُّل الدولة).
فأثر الدول المعاصرة في حياة الناس تضخّم كثيرًا عمّا كان عليه الحال في الماضي، فالدولة تستقبل الإنسان بسلطانها وهيمنتها مذ خروجه منذ ولادته، ثم تهيمن عليه طوال حياته إلى أن يدفن- وبعد أن يُدفن- في قبره.
فإذا كان الإنسان قديمًا يولدُ حين يخرج من بطن أمه، فإنه اليوم لا يولد حقيقةً حتى تمنحه الدولة شهادة ميلادٍ تثبت أن الله خلقه تابعًا لها، ودون هذه الشهادة فإنه يبقى مولودًا على سبيل المجاز لا الحقيقة!
ثم إذا مات هذا الإنسان فلا بد له من شهادة وفاةٍ تثبت أنه مات حقيقةً أيضًا، ودون هذه الشهادة لن يتهيأ دفنه في المقبرة الخاضعة لسلطان الدولة أيضًا!
وفيما بين الولادة والوفاة هناك قصة طويلة عريضة من امتداد نفوذ الدولة واتساع سلطانها وتدخلها في صياغة حياة الناس وعقولهم وأخلاقهم وأديانهم.
أما شأن الدولة وأثرها قديمًا فقد كان أقلَّ من ذلك بكثيرٍ، إذ كان المرء يولد ويكبر ويتعلَّم ويتكسَّبُ ويموت ويقبر ويورث دون أن يحتاج إلى الدولة في شيءٍ، ودون أن تتدخل الدولة في شؤونه، ودون أن يكون لها أثرٌ ظاهرٌ في صياغة شخصيته وطريقة تفكيره؛ ذلك أن الدولة في صورتها القديمة لم تكن تملك مدارس يُلزم الناس بإرسال أولادهم إليها، ولم تكن تملك أجهزةً إعلاميَّةً تصوغ تصورات رعاياها، ولا وزارة تعليم تتحكَّم فيما يتعلمه الناس عن دينهم وتاريخهم، ولا وزارة أوقاف تمارس الوصاية على مساجدهم، ولا وزارة ثقافة ترسم لهم هويّتهم، ولا أجهزةً أمنيةً متشعبةً ترصد همساتهم وخطراتهم!
ومع أن ظاهرة المناصب الرسمية بدأت في وقتٍ مبكرٍ من تاريخ الإسلام، إلا أن العالم فيما مضى كان يتبوّأ مكانته ومنزلته في المجتمع من خلال علمه وعمله، لا من خلال قرارٍ يصدر من القصر بتعيينه مفتيًا للدولة!
وكان العالم قبل زماننا إذا أراد التدريس توجه للمسجد واجتمع طلاب العلم حوله، دون أن يحتاجوا إلى إذنٍ من جهةٍ حكوميّةٍ!
ومتى أراد العالم تأليف كتابٍ فلن يعوزه إلا الأقلام والدفاتر، ولن يحتاج إلى إذنٍ لفسح كتابه والإذن بتداوله!
فلأجل ذلك كان لسان العالم وقلمه أكثر تحرُّرًا في تقرير الدين وبيان أحكامه، وكان مجال الفتيا والتعليم أكثر رحابةً وسعةً، وكانت كتب العقيدة والفقه تؤلَّف وتتداول بين العلماء حتى مع تضمّنها ما يتعارض صراحةً مع سياسات وأهواء ذوي السلطان.
وزيادةً على ذلك: فقد كان العالم قديمًا حُرًّا في تنقله وإقامته بأرض الإسلام، فهو يرتحل لنشر علمه حيث يريد، ويقيم حيث يختار من أرض الله الواسعة، فإن ضاقت عليه أرضٌ اتسعت له أخرى، دون أن يحتاج إلى (جواز سفرٍ) تمنحه له الدولة، ولا إلى (رخصة إقامةٍ) تمنحها له الدولة الثانية التي سيتحول إليها.
هذه الصورة من الاستقلال النسبي عن الدولة انتهت وطواها التاريخ، فأصبحت الدولة وأجهزتها اليوم المؤثر الأول في حياة الناس وتفاصيل معاشهم وطرائق تفكيرهم.
وبالنسبة لبلاد الإسلام، فقد تعاظم هذا الإشكال مع تسلط النظم المنحلة على رقاب المسلمين وهيمنتها على حياتهم وعقولهم وأسماعهم وأبصارهم، فامتدّ أثرها ليصل إلى التدخل في صياغة تصورهم لأحكام دينهم، فصارت الدول تجهد في ترسيخ وإشاعة ما يناسبها من فتاوى وأحكامٍ، وفي حجب ومنع ما لا يتفق من ذلك مع سياساتها، وبخاصة تلك الأحكام المتعلقة بفقه السياسة الشرعيّة، فكانت النتيجة أن ضاق مجال كلمة الحق في هذا الباب، وصعب على أهل العلم وحمَلَته إشاعة الفقه والفهم الصحيح لمسائله، وبالمقابل اتسع الفضاء لتأويلات الجاهلين، وانتحالات المبطلين، وتحريفات الغالين، ونفاق المتزلفين، حتى وصل الحال إلى أن العالم اليوم قد يحتاج إلى التحول من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر، لا لأجل أن يكون معارضًا سياسيًّا، بل لمجرَّد أن يستطيع نشر علمه والبوح ببدهيَّات دين الإسلام المجمع عليها! وهي الظاهرة التي لم يعرفها المسلمون طيلة تاريخهم.
ومن المفارقات العجيبة: أنّ هيمنة الدولة وسلطانها على وعي الناس توسع حتى طال منهج التفكير لدى طائفةٍ من معارضي فسادها وانحرافها ممن حملوا أقلامهم ليشخصوا الداء ويصفوا الدواء، فإذا بهم-من حيث لم يشعروا- يُسقِطون معاناتهم على ماضي الأمّة، وبدل أن يبحثوا في مصادر الإسلام وإرث المسلمين العلمي عن التصور الصحيح لفقه السياسة الشرعية، إذا بهم يتحدَّثون عن حاجة المسلمين للخلاص من فقهٍ سياسيٍّ محرَّفٍ كتبه علماء الإسلام تحت تأثير الدوَل والملوك والسلاطين!
وموضع المفارقة هنا أن تلك الأقلام التي نفرت من حاضرها، لم تفلح في الخلاص من سلطانه الجاثم على القلوب والعقول، فلم تستطع قراءة الماضي بعيدًا عن الصورة الماثلة أمامها التي لا ترى ولا تسمع فيها سوى فقهٍ يغيب الوعي، ويرسخ الاستبداد، ويعظم الظالم، ويجرم الناطق بالحق.
فلأجل هذا كله، كان من واجب أهل العلم وحملته العمل على إعادة الأمر إلى نصابه، بالعمل على تحرير العقول من هيمنة هذا الحاضر المنحرف، وإبراز الصورة الجليّة لفقه السياسة الشرعيّة الذي يتعرض اليوم للكثير من العبث والتحريف الممنهج.
ومن هنا: تأتي هذه المقالة لتكون الأولى من سلسلة مقالاتٍ مقبلةٍ إن شاء الرحمن، أرجو أن تكون إسهامًا في مسيرة التصحيح والإصلاح.
وقبل أن أضع القلم في خاتمة هذه المقالة الافتتاحية: سوف أسوق للقارئ أنموذجًا مأخوذًا من أحد مصادر الفقه الإسلامي الشائعة، لنرى من خلاله كيف كان مجال الحرية فسيحًا أمام العالم والفقيه، ثم لنتخيَّل كيف سيكون الحال لو أن عالمًا اليوم تكلَّم بمثله.
فمن كتب الفقه الذائعة الصيت كتاب (الفروق) لشهاب الدين لقرافي، وفيه نرى تأصيلًا صريحًا خلاصته: أنّ الملوك والسلاطين الذين يكثرون التصرف في بيت المال بغير وجه حقٍّ، فإنه لا يحلُّ لأبنائهم أن يرثوهم بعد موتهم، لأنَّهم يموتون وفي ذممهم دينٌ كثيرٌ لبيت مال المسلمين والدَّين مقدَّمٌ على حق الورثة بالإجماع، وعليه فإن أموال أولئك الملوك الخاصة يجب أن تعود لبيت المال، بل حتى أوقافهم التي أوقفوها في أوجه الخير فإن القرافي يبطلها، إلا أن يكونوا أوقفوها نيابةً عن المسلمين، لا على أنها أوقافٌ لهم.
وهذا نصُّ الكلام من كتاب الفروق (2/411):

“الملوكُ فقراء مَدينون بسبب ما جنَوْهُ على المسلمين من تصرفاتهم في أموال بيت المال بالهوى، في أبنية الدور العالية المزخرفة، والمراكب النفيسة، والأطعمة الطيبة، وإعطاء الأصدقاء والمدَّاح بالباطل، من أموالٍ وغير ذلك من التصرفات المنهي عنها شرعًا؛ فهذه كلها ديونٌ عليهم، فتكثر مع تطاول الأيام، فيتعذر بسببها أمران:
أحدهما: الأوقاف والتبرعات والبيوعات…
وثانيهما: الإرث؛ لأنه لا ميراث مع الدَّين إجماعًا؛ فلا يورث عنهم شيءٌ…
فإن وقفوا وقفًا على جهات البر والمصالح العامة، ونسبوه لأنفسهم بناءً على أنَّ المال الذي في بيت المال لهم- كما يعتقده جهلة الملوك- بطل الوقف، بل لا يصح إلا أن يوقِفُوا معتقدين أنَّ المال للمسلمين والوقف للمسلمين، أما أنَّ المال لهم والوقف لهم فلا”.
كتب القرافي هذا الرأي، ولم تنشق الأرض من تحته، ولم تهوِ السماء فوقه، ولم يُحظَر كتابه، بل شاع واشتهر شهرةً واسعةً ولا يزال متداوَلًا إلى اليوم. ولم يكن السبب في ذلك أن صدر الدولة آنذاك كان يتسع لمثل هذا الرأي المعارض، بل السبب: أنَّ سلطان الدولة ورقابتها وهيمنتها كانت محدودةً للغاية إذا ما قيست بما عليه الحال اليوم.
ولا يزال للفقه السياسي بقيةٌ في المقالات القادمة إن أذن الرحمن.