في مجال التقدير السياسي لا ينبغي أن يكون هناك حِجر على أي قراءة ترى في هذا الفعل صوابًا أو خطًأ، ما دامت قد انطلقت من أسس علمية غير مغرضة ولا موجهة.
وفي طوفان الأقصى، تعددت الآراء حول الحيثيات التي استندت إليها حركة حماس في تخطيطه وتنفيذه، ففي البداية قدر معظم الناس أن «إسرائيل» ستخضع في النهاية لضغط الشارع وتجري صفقة مع حماس من أجل الإفراج عن أسراها، لكن بمرور الزمن أدرك الجميع أن حكومة تل أبيب لن تستجيب للضغوط عليها، وأن لديها أهدافًا أخرى، مهدت العملية لتنفيذ بعضها أو سرّعت بتنفيذها تأسيسًا على تلك العملية وتذرعًا بها.
دمرت «إسرائيل» غزة تمامًا، وقتلت وجرحت نحو مائتي ألف من سكانها؛ فعلت أصوات ناقدة للطوفان، من الأطياف كافة، على اعتبار أنه هو من جلب هذا الدمار، وأن قادة حماس لم يحسنوا تقدير الموقف، وهذا كان يمكن تفهمه ما لم يكن صائدًا في الماء العكر، ولو كان غرضه النصح وتصويب المسيرة، وحمل الحركة على التجاوب مع تفاوض مقبول (وهو ما لم يكن مطروحًا في أي لحظة)!
النوايا، حسن التقدير، التوقيت، طرح المبادرات والحلول، كلها أمور لها قيمتها عند النظر في الانتقادات، لكن إذا كان الغرض بث روح الهزيمة والاستسلام والخضوع للقوى الكبرى، أو كان توطئة للتطبيع، أو كان تكريسًا للتبعية التي يسلكها الحكام العرب- أو معظمهم- ونفاقًا للمنبطحين، أو كان الغرض هو استعراض القدرات التحليلية، أو تبكيتًا حين تنعدم الخيارات أمام المقاومين، أو دقًّا للأسافين بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، أو تيئيس الشعوب من مجرد الحلم بمقاومة المحتلين؛ فمن السذاجة والغفلة التعامل مع هذا النقد ببراءة وإحسان ظنٍّ وحسن نية!

في الآونة الأخيرة أصدرت لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فتوى بشأن “استمرار العدوان على غزة ووقف الهدنة” (28 مارس 2025م)، اتسمت بنبرة عالية من التحفيز على المقاومة الشعبية ووضع الحكومات أمام مسؤوليتها، وتتفق وفداحة الجريمة العظمى التي تحدث في غزة، تضمنت دعوة صريحة لكل مسلم مستطيع بالجهاد، وأصحاب رؤوس الأموال إلى الجهاد بالمال ضد «إسرائيل»، والحكومات في الدول الإسلامية بإقامة حلف عسكري ضد «إسرائيل» من أجل ردعها ووقف عدوانها على غزة، ووصمت الفتوى من يعاون «إسرائيل» ويشاركها الحصار على غزة من الأنظمة متقصدًا ذلك بالردة، كما دعت الفتوى إلى محاصرة «إسرائيل» ومنع الوقود والغذاء عنها.
ثم أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بيانًا شدد على المقاومة السلمية بتفعيل المظاهرات والمقاطعة الاقتصادية لـ«إسرائيل»، مما اعتبره المراقبون تخفيفًا لـ«حدة خطاب الفتوى».
وقد كان من الوارد جدًّا أن تمر تلك الفتوى على العواصم المتواطئة مع «إسرائيل» مرور الكرام بسبب ما يعتبره ناقدوها أنها غير واقعية بالمرة، فما من سبيل لا لجهاد مستطيع في العالم الإسلامي، ولا وجود لأي أرضية يمكن أن يحاصر بها حلفاء «إسرائيل» ربيبتهم فضلًا عن أن يهاجموها عسكريًا!
غير أن الفتوى لم تمر عابرة، واستفزت أطرافًا من هنا وهناك، وجعلت من دار الإفتاء المصرية تنبري للرد عليها عدة مرات وكذلك أحد أجنحة الدعوة السلفية بالإسكندرية بمصر تنتقدها أكثر من مرة، مما أسهم في انتشار الفتوى على نطاق واسع.
كانت الجهتان تتجاهلان كل ما يصدر عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كما أنهما استخفتا بهذه الفتوى عند صدورها، لدرجة أن الدكتور خالد عمران أمين الفتوى بدار الإفتاء، اعتبر أن الفتوى صادرة عن غير متخصصين يبحثون عن “التريند” خرجوا ببيان يدعون لما يسمونه “الجهاد المسلح”، وخرج من بعض شيوخ سلفية الإسكندرية عبارات تهون كثيرًا من دعوة «النفير العام» التي أطلقها الاتحاد، وتصف الفتوى بالتكفير والدعوة للفوضى.
وعداهما، شن الإعلام الإماراتي هجومًا عنيفًا عن الفتوى، وكتب الدكتور سالم الكتبي أحد القريبين جدًّا من السلطة واصمًا الاتحاد بأنه «منصة الإرهاب» متسائلًا – بعد تحريض على الاتحاد ووصف الدعوة للجهاد بالإرهاب والتحريض على المنظمات الخيرية – «هل تنتظر أميركا وأوروبا هجمات إرهابية جديدة على غرار أحداث 11 سبتمبر لتتخذ إجراءات حاسمة ضد هذه المنظمات؟! أم أنها ستتحرك الآن لمواجهة هذا التهديد قبل فوات الأوان؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل الأمن والسلم في السنوات القادمة!».
وتنوعت الخرجات الإعلامية لأبواق عبرت أكثر ما عبرت، عن انزعاج شديد لدى السلطة في أكثر من دولة عربية من صدور هذه الفتوى، فمعلوم أن هؤلاء لا يقدحون من رؤوسهم؛ فأسباب هذا الانزعاج واضحة للعيان..
فمن هذه الأسباب، أن الفتوى تضمنت دعوة صريحة إلى «الجهاد» تتسع لتشمل كل مستطيع، وهي دعوة رغم عدم توفر البيئة المواتية لها إلا أنها تمثل اختراقًا في حاجز تغييب هذا المصطلح وتلك الفريضة التي يُراد إماتتها، ولصقها دائمًا بالإرهاب. وهذا الحديث عن الجهاد يلقى تأييدًا لدى كثير من الشباب، أقله كطريق معتبر صحيح، ولو لم يكونوا جاهزين له أو قادرين عليه أو ملتمسين وسيلة لسلوكه.
ومنها، أن إعادة البوصلة في اتجاه توحيد الأمة خلف معنى الجهاد ودعوة الدول العربية خصوصًا دول الطوق لحصار وضرب «إسرائيل»، والاضطلاع بمسؤوليتها حيال الإبادة الجماعية بحق أهل غزة هو إحراج شديد لأنظمة بدأت تهيئ شعوبها لقبول الاستسلام والتهجير التالي له.
ومنها، أن الضغوط العربية على حماس الآن هي نفسها مطلب «إسرائيل» بتسليم الحركة لسلاحها هو ما يتعارض تمامًا مع فكرة استمرار المقاومة، على خلاف ما لم تكن تضغط من أجله هذه الدول قبل شهور مضت. بمعنى أوضح : ما يطلبه رموز «دعوية» الآن تحديدًا من ضرورة فعل حماس لأي شيء وإبداء مرونة من أجل وقف النزيف هو ما تطلبه «إسرائيل» عبر وكلائها، لا يحيد عنه قيد أنملة.
وسهام النقد التي وجهت للحركة من شيوخ «سلفيين» لا تعود إلى أن هؤلاء اكتشفوا للتو واللحظة أن حماس أخطأت في اجتهادها أو لم تحسب حساباتها جيدًا مثلما قالوا؛ فهذا «الاكتشاف» معروف منذ شهور كثيرة لكل ناقديها، وكما قلنا يمكن تفهمه جدًّا لو كان بريئًا؛ فتخطئة حماس ليست جريمة، ولا هي معصومة. بل لو تم توجيه النقد لها من قبل لربما كان مقبولًا أيضًا حينما كانت تملك عددًا من الخيارات. أما وإن المسلمين في غزة جميعهم اليوم قد صارت ظهورهم للحائط وانعدمت أمامهم الخيارات؛ فإن حثهم اليوم على الاستسلام المفضي إلى التهجير أو المهادنة دون أدنى ضمانات يُعد تماشيًا مع أحلام الأدوات وسيدهم في تل أبيب.
فأي طمأنينة سكنت قلوب «الناصحين» وهم يطلبون من حماس تسليم سلاحها، أهي بسبب قناعتهم بوفاء ترامب ونتنياهو بعهودهما وهم ينقضونها في كل أسبوع مرة أو مرتين، أم باعتقادهم بقوة وصلابة ضمانات الوسطاء الكرتونية وقدرتهم على فرض إرادتهم على ترامب ونتنياهو، وهم يرتعدون من مجرد ذكر اسمه، أهم آمنون من أن تفي «إسرائيل» بوعودها فلا تبيد ولا تهجِّر إذا ما استسلمت لهم القسام!