لماذا الآن يا هويريني؟!!

دعا رئيس أمن الدولة السعودي عبدالعزيز الهويريني جميع من أسماهم “المغرر بهم في الخارج” إلى العودة إلى أرض الوطن، مضيفًا أن هذه الدعوة مقدمة لهم من ولي العهد ابن سلمان، وأنه وجهه بذلك شخصيًّا بألا يتم التعرض لهم وإنما تسهيل عودتهم بكل سلام وبدون تشهير ولا خلافه.

دعونا نتوقف عند هذه الدعوة بشيء من التأمل والتفكيك حتى نخرج جميعًا بحكم موضوعي عليها وفي أي سياق يمكن النظر إليها.

أولًا: دعونا نتساءل عن سر توقيت هذه الدعوة، وما الجديد الذي تقدمه، ودعونا نفترض أن أحد المعارضين قرر العودة قبل دعوة الهويريني بشهر أو شهرين فكيف كان سيتم التعامل معه؟

لاشك أن المتابعين والمهتمين يعلمون أن أي أحد في أي وقت يتواصل طالبًا العودة متنازلًا عن أفكاره الإصلاحية فإنه يتم الترحيب به وتسهيل عودته بكل سلاسة، بل إن الدولة سبق أن تواصلت مع العديد من الإصلاحيين والمعارضين تعرض عليهم ابتداء من نفسها صفقات للتسوية والعودة من الخارج، ولن أتكلم عن التواصلات التي لم تظهر للسطح وهي كثيرة ومعلومة للمهتمين، ولكن دعونا نستعرض بعض النماذج المشتهرة التي ظهرت في الإعلام وتكلم عنها أصحابها بأنفسهم، فالكل مثلًا يعلم تفاوضهم ومحاولاتهم لإعادة المعارض عمر عبدالعزيز، وكيف أنه حين رفض العودة تعرضوا لإخوانه وأصدقائه بالاعتقال وغيبوهم في السجون، وأجزم أنه لو استجاب لهم حينها وتخلى عن مشروعه الإصلاحي وعاد من الخارج لما تعرضوا له ولا سجنوه بل ربما فتحوا له خزائن الدولة ودفنوه بالأموال والأعطيات!

وقبل سنوات عاد المعارض عبدالعزيز الحصان من الخارج بناءً على تواصل وتسوية رسمية مع أمن الدولة حينها، والقصة معلومة تكلم عنها الحصان بنفسه في حسابه بتويتر، ولم تكن تلك العودة نتيجة لدعوة عامة أو مبادرة مفتوحة للجميع.

إذن ما دام الباب مفتوحًا أصلًا، بل وهم يتواصلون ابتداءً مع المعارضين بالخارج لإقناعهم بالعودة مقابل صفقات وتسويات؛ فما السر في توجيه الدعوة بهذا الشكل الصريح وعلى لسان أكبر مسؤول أمني في البلد، وبتأييد صريح من رأس الدولة ابن سلمان وعبر أكبر قناة إعلامية انتشارًا قناة mbc؟!

يظهر من القراءة السابقة أن تلك الدعوة لا تقدم شيئًا جديدًا على المستوى العملي وأنها لا تضيف شيئًا للراغبين في العودة من المعارضين، ولذا دعونا نحاول أن نقرأ الأهداف المحتملة التي سعى النظام لتحقيقها من خلال تلك الدعوة.

بمرور السنين على المعارض المقيم في الخارج فإنه يتأقلم شيئًا فشيئًا ويصل إلى حالة من الاستقرار النسبي على المستوى الشخصي والنفسي والأسري والاجتماعي والمالي عمومًا، مما يجعل فكرة العودة من الخارج تتلاشى وتصبح فكرة غير مطروقة لديه شخصيًّا ولا ممن حوله من الأهل والأقارب والأصحاب، فتأتي مثل هذه الدعوة من الهويريني لتلقي حجرًا ضخمًا في الماء الراكد مما ينتج عنه عودة القضية حية وساخنة عند المعارض ومن حوله كأنما لتوه غادر البلد، فتبدأ الضغوط تنهال عليه والاتصالات تصله من كل جهة من أقاربه وأصحابه تدعوه لاهتبال الدعوة والعودة سريعًا قبل فوات الفرصة!!

هنا تتشكل حالة نفسية جديدة للمعارض أو الإصلاحي الموجود بالخارج، أيًّا كان نشاطه فيبدأ في مراجعة الأمر من جديد، ويعيد دراسة وضعه بشكل كامل تحت تلك الضغوط، وهذا بالضبط ما تهدف إليه تلك الدعوة الماكرة من الهويريني، الرجل الأمني الأول والأخطر في البلد والذي تعامل مع تلك الملفات وأصحابها على مدى عشرات السنين، والخبير بالتلاعب بنفسيات الإصلاحيين وأهاليهم!!

ليس محل النقاش هنا هل يعود المعارض أو الإصلاحي أو لا يعود، فلعل هذا يناقش في مقال آخر، إنما أردت هنا أن نفهم سويًّا لماذا ألقى الهويريني تلك الصخرة وأحدث تلك البلبلة التي اتفقنا أنها ليست ذات وزن حقيقي في الميزان العملي؟!

بمرور السنين على المعارض المقيم في الخارج فإنه يتأقلم شيئًا فشيئًا ويصل إلى حالة من الاستقرار النسبي على المستوى الشخصي والنفسي والأسري والاجتماعي والمالي عمومًا، مما يجعل فكرة العودة من الخارج تتلاشى وتصبح فكرة غير مطروقة لديه شخصيًّا ولا ممن حوله من الأهل والأقارب والأصحاب، فتأتي مثل هذه الدعوة من الهويريني لتلقي حجرًا ضخمًا في الماء الراكد مما ينتج عنه عودة القضية حية وساخنة عند المعارض ومن حوله كأنما لتوه غادر البلد

المتأمل في مسيرة العمل الإصلاحي في السعودية يجده قد تم احتواؤه داخليًّا بشكل ذكي وماكر جدًّا على مدى العقود الماضية، حتى أنك حين تستعرض بشكل سريع ذلك الحراك لا تكاد تجد من الأسماء البارزة التي غادرت البلد سوى أسماء محدودة جدًّا ربما تعد على أصابع اليد الواحدة!

بينما مع مجيء ابن سلمان باندفاعه وعنجهيته وبطشه والاستماع إلى مستشاريه الطائشين من أمثال سعود القحطاني، وإطلاق يد السفهاء من أمثال تركي آل الشيخ ليفتري على الناس ويسجنهم وينكل بهم لمجرد حديث عابر عن الترفيه مثلًا!

بهذا السفه والطيش فقد قدم ابن سلمان لمسيرة العمل الإصلاحي خدمة عظيمة ودفعة هائلة إلى الأمام، فقد جند في سنوات قليلة الآلاف من المعارضين والإصلاحيين سواء ممن أعلن عن نفسه صراحةً أو من هرب خوفًا على نفسه من البطش والاعتقال وبقي دون إعلان معارضته الصريحة، هذا الوضع مثل حالة إرباك وقلق هائل لدى القيادات الأمنية من الدولة العميقة التي تمرست على احتواء الإصلاحيين والتلاعب بهم على مدى العقود الماضية، وعلى رأس هؤلاء وأخطرهم الهويريني نفسه، ولذلك استطاع أن يقنع ابن سلمان بخطورة الوضع والحاجة لخطوة تصحيحية تعيد الأمور إلى نصابها عبر هجرة عكسية تهدف لإعادة حشر المعارضين والإصلاحيين داخل السياج الواسع من حدود الدولة، دون الحاجة لسجنهم؛ وذلك بهدف أن يكونوا في متناول القبضة الأمنية متى ما قررت اعتقالهم أو التنكيل بهم لأي سبب!

من هنا جاءت تلك الدعوة الماكرة لخلط الأمور وإرباك المشهد حتى يتمكن من إعادة من يمكن إعادته وتحييدهم، وضمان ألا يكونوا عناصر فاعلة في عملية الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد والاستبداد وتغول السلطة في حياة الناس وحرياتهم!!

قدم ابن سلمان لمسيرة العمل الإصلاحي خدمة عظيمة ودفعة هائلة إلى الأمام، فقد جند في سنوات قليلة الآلاف من المعارضين والإصلاحيين سواء ممن أعلن عن نفسه صراحةً أو من هرب خوفًا على نفسه من البطش والاعتقال وبقي دون إعلان معارضته الصريحة

إذا فهمنا هذه الفلسفة خلف تلك الدعوة فإنه يسهل عمل مقاربات عملية للتعامل مع تلك الدعوة في سياقها الحقيقي وليس المصطنع، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، وفهم سياقات الأحداث ضرورة كبرى للتعامل معها بشكل رشيد، فهل سيتهافت الإصلاحيون على تلك الدعوة ويبتلعون الطعم؟!

لعله تتهيأ فرصة لبسط الحديث عن التعامل مع تلك الدعوة والفروق المنطقية بين الموجودين في الخارج في مقال قادم إن يسر الله.

والله من وراء القصد.