في التاسع من شهر سبتمبر من العام ٢٠١٧، كتب العالم السعودي المفكر د/ سلمان العودة، تغريدة تعليقًا على أنباء سرت بقرب انفراجة في العلاقات بين بلاده وقطر، كان نصها: «ربنا لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. اللهم ألف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم».
لم يأتِ الفجر على هذه التغريدة على موقع إكس حتى وُضعت الأصفاد في يدي الشيخ الذي «تجرأ» وتحدث في شأن عامٍ سياسي!
وفي الثامن عشر من شهر سبتمبر من العام ٢٠٢٥، عرض بابا الفاتيكان الجديد ليو الرابع عشر، خلال استقباله لرئيس أوكرانيا، فولوديمير زلينيسكي، استضافة الفاتيكان لمباحثات سلام بين روسيا وأوكرانيا بعد أن فشلت مباحثات اسطنبول منتصف هذا الشهر في إحلال السلام بين البلدين!
ولم يتأخر الرد الأمريكي والأوكراني والأوروبي، وقالت رئيسة الحكومة الإيطالية، أنها هي، والرئيس الأمريكي ترامب، والأوكراني زيلينسكي، والفرنسي ماكرون، والفنلندي شتوب، والمستشار الألماني ميرتس، ورئيسة المفوضية الأوروبية دير لاين، قد رحّبوا جميعًا بـ«استعداد الحبر الأعظم لاستضافة مباحثات في الفاتيكان (لإحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا)»، واصفين إياه بأنه «إيجابي». وذلك خلال اتصال تليفوني جرى بينهم.
يحدث هذا وذاك، فيتراءى أمام الناظرين مشهدٌ مضحكٌ مبكٍ؛ فأما المضحك فيه، فهو تلك المفارقة الفاقعة بين صدور ما حصل للدكتور العودة وجميع رفاقه المسجونين لمدد طويلة، لمواقف مشابهة أو قريبة منها، من قلب بلد «إسلامي»، بل في بؤرة التدين الإسلامي، حيث الحرمان الشريفان وقبلة المسلمين وقلعة العلم والعلماء!
لم يأتِ الفجر على هذه التغريدة على موقع إكس حتى وُضعت الأصفاد في يدي الشيخ الذي «تجرأ» وتحدث في شأن عامٍ سياسي!
حيث يُفترض أن للعلماء فيها كلَّ الحق أن يتناولوا الشأن العام نصحًا وتوجيهًا ونقدًا وإرشادًا بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، وفي قلبه الحث على الإصلاح بين الناس، وأجله الإصلاح بين الدول الإسلامية التي اختلفت فتخاصمت لأسباب واهية، ثم عادت ونقضتها كلها في لحظة واحدة!
في نقيض حالة أخرى لدول غربية، هي في مجملها علمانية، دستورًا وأيديولوجية، وثقافة، ومع ذلك هي تقبل بل تخضع وترحب بتدخل بابا الكنيسة في صلب السياسة حتى يخوض في بحارها اللجية، ويستضيف ويدير وساطة بين دولتين «علمانيتين»، قد عجز العالم من قبل عن وقف الحرب بينهما لسنتين!
وأما المبكي؛ فهذا الحالُ البئيسُ المهينُ، الذي يُترك فيه جلة علماء الأمة المسلمة ومفكروها يذوبون خلف قضبان سجون قوم لا ينظرون للغرب إلا بكل إجلال وانبهار، ثم تغفل عقولهم عن استيعاب دلائل هذا الملمح البارز في الموقف «الحضاري الغربي» الذي شاهدناه!

فالبابا هو كاردينال منتخب من ١٣٣ كاردينالًا، بانتخاب حر لا تتدخل في اختياره أي حكومة أو جهاز أمني، ليكون «الخليفة الـ 267 للقديس بطرس الرسول»، كما يقولون، من غير أن تتدخل الدول الأوروبية لوقف هذا السلسلة التاريخية الطويلة، بينما يلاحق العلماء في ديار الإسلام، تضييقًا وتتبعًا (بشريًّا وإليكترونيًّا إذا لزم الأمر!).
وهذا البابا يدير مؤسسته دون أي تدخل حكومي بخلاف الدول الإسلامية التي تؤمم كل مؤسساتها الدينية، وتُخضعها وتُدجنها، وتُراقب حركاتها وسكناتها، وتعد على العالم والخطيب أنفاسه، ولا تمرر خطبته للمسلمين إلا بعد المرور على قلم الرقيب الجاهل الخشن!
والكاردينال المنتخب «روبرت فرنسيس بريفوست» هو أمريكي الجنسية، ولم تعترض حكومة إيطاليا على ألا يكون أوروبيًّا بله ألا يكون إيطاليًا؟!
ولم تقل هي أو غيرها من الدول الكاثوليكية الكثيرة إن ولاء البابا سيكون للخارج، وليس أي خارج! فالبابا يحمل جنسية أقوى دولة في العالم، وكان ذلك أدعى أن يُستبعد من شأن ديني «خالص»، لكن العكس هو ما قد حصل، فقد رحب به المجتمع المسيحي وتشرف به الرئيس الذي يركع بين يديه قادة مسلمون! فقال ترامب مفتخرًا: «انتخاب ليو الرابع عشر بابا للفاتيكان أميركي للمرة الأولى شرف عظيم وأتطلع للقائه، وستكون لحظة بالغة الأهمية».
وأما المبكي؛ فهذا الحالُ البئيسُ المهينُ، الذي يُترك فيه جلة علماء الأمة المسلمة ومفكروها يذوبون خلف قضبان سجون قوم لا ينظرون للغرب إلا بكل إجلال وانبهار، ثم تغفل عقولهم عن استيعاب دلائل هذا الملمح البارز في الموقف «الحضاري الغربي» الذي شاهدناه!
بينما تُعد الفتوى في بلاد الإسلام ومعاقله شأنًا «وطنيًّا» خالصًا، وعداه تعدٍ وتطفلٌ، بل إن إمامة المصلين لا يُسمح أن يقوم بها إلا أئمة «الوطن» دون سواهم، وإلا عُدَّ ذلك تدويلًا غير مقبول!
لم يزد الدكتور سلمان العودة عن التغريد بالدعاء بصلاح الأحوال بين بلدين مسلمين سنيين عربيين جارين، فلبث في السجن بضع سنين، ولم يزل!
أما ليو فقد رفعه ترامب وميرتس البروتستانتيين، وميلوني وماكرون الكاثوليكيين، وبوتين الأرثوذكسي، وزيلينسكي اليهودي، فوق رؤوسهم، وارتضوا وساطته، وشكروا مساعيه!
يعني الإسلام شمولًا لكل منحى في الحياة، وهو يتسامى بحقٍ فوق كل آصرة ورابطة تجمع الناس، من قومية وعرقية وجهوية وقبلية ووطنية، فليست كلها إلا مطايا للتعارف والتآلف لا التناحر والتعصب.
ويعني تقديس الإسلام في جوهره احترام وتبجيل علمائه وإنزالهم منازلهم التي يستحقون، عالين فوق الرؤوس؛ فهم الموقعون عن رب العالمين كما يقرر ابن القيم.
وتعني العلمانية، أن ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وتعني حصر الدين في دور عبادته، وعزله عن التدخل في السياسة، وتقديم الوطن على الدين، فهل فيما ترون تحقيقًا لهذا أو لذاك، أم هو الحصار لكل ما هو إسلامي دون سواه؟!