ما يتركه تدبر القارئ لكتاب الله عز وجل من انطباع حول حال المترَفين فيه هو أن هؤلاء في سائر العصور، هم ذوو سيرة سيئة وأفعال إجرامية، وكفران للنعمة وإعراض عن شكر المنعم سبحانه وتعالى، وبطر مزمن لا ينقطع ولا يُراجَع.
ثمانية مواضع بين دفتي المصحف لم يُذكر فيها المترفون إلا في محل الذم والإدانة، كانت لكفيلة بأن يتعوذ من هذا النمط المعيشي وما يترتب عليه من قناعات- المؤمنون ويفرق منه الصالحون.
آيات وآيات تحذر من مصير المترَفين، وتصفهم بأنهم في طليعة الرافضين لدعوة الحق، لا لأنهم يعيشون في رغد من العيش والنعيم، بل لأنهم قد غرقوا في الفساد، فبطروا وطغوا؛ فصدهم ذلك عن الحق فرفضوه؛ فالمترَف – كما في لسان العرب – هو «الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش. وأترفته النعمة: أي أطغته».. أطغته، حتى صار رأس حربة يحارب الدين ويتصدى لانتشاره..
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [سبأ: ٣٤].
﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: ٢٣].
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: ٣٣].
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: ١٦].
﴿ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: ١٢-١٣].
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [المؤمنون: ٦٤-٦٥].
﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: ٤١-٤٦].
ترى المترَفين من خلال تلك الآيات السبع الكاشفات، أصحاب صوت عالٍ في رفض الدعوة والدعاة إلى الخير، مستمسكين بإرث الباطل وأهله، أقران غفلة وانغماس في الملذات، لا يكادون يشعرون بإمهال الله تعالى لهم حتى يجرفهم الهلاك بسيله.
وتأتي الآية الثامنة، لترى معها صورة جامعة لفساد يستشري وثلة راشدة تكافحه، صراع يدور بين ترفٍ طاغٍ، ونهيٍ عن فساد منتشر..
﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: ١١٦].
فهو ليس صراعًا بين غنى وثراء ورفاهية وبين تشدد وانغلاق. فهذه الآية واضحة أشد الوضوح: إنه استرسال مع الترفيه والتنعم غير المنضبط، والمنفلت من أي عقال، حتى لأنه ليضيق ذرعًا بكل صوت يدعو إلى مكارم الأخلاق وينهى عن استشراء الفساد!
إنه فساد يبني ترفيهه على إشاعة الفجور واستدعاء أئمته ورموزه وتقديمهم وتكريمهم وفتح خزائن البلاد بين أيديهم وإغداق أموال المسلمين بغير حساب عليهم!
فساد يبني ترفيهه على إقامة هيئة له مفتحة لها خزائن البلاد والعباد! واستبدالها بهيئة للأمر ببعض المعروف والنهي عن بعض المنكر!
بل فساد يبني ترفيهه على إزالة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن يمثلها من الوسط والميدان؛ فليس من قبيل المصادفة أن كل ترفيه منفلت، يجعل صدر صاحبه ضيقًا حرجًا من تذكير المصلحين وتحذيرهم من عواقب هذا الفساد؛ فيغيبونهم من الساحة أو يكادون!
ومن جميل تعبير الآية أنها تحدثت عن هؤلاء المصلحين الذين كان ينبغي أن يوضعوا فوق الرؤوس تكريمًا، فوصفتهم بأنهم (أولو بقية)، يقول العلامة الطاهر بن عاشور: «والبقية: الفضل والخير. وأطلق على الفضل البقية كناية غلبت فسارت مسرى الأمثال لأن شأن الشيء النفيس أن صاحبه لا يفرط فيه. وبقية الناس: سادتهم وأهل الفضل منهم.. ومن أمثالهم “في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا”. فمن هنالك أطلقت على الفضل والخير في صفات الناس فيقال: في فلان بقية، والمعنى هنا: أولو فضل ودين وعلم بالشريعة، فليس المراد الرسل ولكن أريد أتباع الرسل وحملة الشرائع، ينهون قومهم عن الفساد في الأرض».
هذا الشيء النفيس الذي لا يفرط فيه صاحبه، كما سبق من كلام ابن عاشور، فرّط فيه الغافلون المترَفون؛ فأزاحوه من أمامهم، جهلًا منهم بأن هؤلاء المصلحين الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، هم صمام الأمان للأمم والشعوب، إذ إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع..
وقد جاء في تفسير التحرير والتنوير أن «الفساد: المعاصي واختلال الأحوال، فنهيهم يردعهم عن الاستهتار في المعاصي فتصلح أحوالهم فلا يحق عليهم الوهن والانحلال كما حل ببني إسرائيل حين عدموا من ينهاهم. وفي الآية عبرة وموعظة للعصاة من المسلمين؛ لأنهم لا يخلون من ظلم أنفسهم. واتباع ما أترفوا فيه هو الانقطاع له والإقبال عليه إقبال المتبع على متبوعه. وأُترفوا: أُعطوا الترف، وهو السعة والنعيم الذي سهله الله لهم فالله هو الذي أترفهم فلم يشكروه».
فوجود البقية الإصلاحية، الناهية عن الفساد، الآمرة بالمعروف، من حملة الشريعة، هي حاجة ملحة للمجتمع لمنعه من الانجراف نحو الإتراف المذموم، وسلوك سبيل المترفين من بني إسرائيل، ومن ثم استحقاق العقوبة الربانية.
وكلما انحسرت رقعة النهي عن الفساد واتسعت رقعة الفساد، وهام المترفون خلف الترفيه والترف، اتباعًا وانجذابًا دون روية وانضباط، سار المجتمع نحو هاويته ولو خال له أنه صاعد نحو المدنية والتحضر والرفاه الاجتماعي الزائف!
إذا غاب النهاة عن الفساد، أولو بقية الخير خلف القضبان، وعلت فرق الإفساد من أدوات خلوف بني إسرائيل خشبات المسارح؛ فلا تتعجب إذا أقبل الفقر والشقاء والهلاك؛ فإن سنة الله في خلقه لابد ماضية! (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:٢٣].