يعتبر الغلو – الذي يعني الزيادة والتجاوز – واحدًا من أخطر المفاهيم المهددة للدين والجانحة به عن مساره، لذا ورد النهي عنه صريحًا في الكتاب والسنة، فيقول تبارك وتعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو) .
وهو أحد بوابتي التحريف للدين والابتداع فيه، لم يكد باب من أبواب الدين أن يسلم منه، حتى صار من سمات أهل السنة التي يذكرها علماؤهم في مدونات العقائد، أنهم وسط في أبواب الدين ومسائله بين طرفين: الغالي فيه والجافي عنه.
وإذا كانت المسائل المختلفة والمتنوعة من الدين، لم تسلم من جائحة الغلو في أنظار كثير من المبتدعين، فإن من أكثر المسائل عرضة للغلو بطبيعتها: مسألة طاعة ولي الأمر، ذلك أن الغلو فيها هوى يعجب الحكام ويشجع المتملقين لهم، كما أن في مواجهتها والتحذير منها ضريبة التعرض لاستعدائهم والتحريض من أتباعهم وأوباشهم، فالغلو فيها مبذول بالرغبة، وبيانه مدفوع بالرهبة، ولذا انتشرت البدع والمفاهيم الخاطئة في هذه المسألة، حتى غدت جملة من مسائل السياسة الشرعية التي ذكرها علماء أهل السنة في مصنفاتهم غريبة لا تكاد تذكر، وإذا ذكرت استنكرها الجهال والمتعالمون من ضحايا هذا الغلو.
تعريف الغلو في طاعة ولي الأمر:
والغلو في طاعة ولي الأمر بإيجاز: هو الزيادة في هذا المفهوم الشرعي عما جاء في الشريعة، فحينما يأمر الشرع بطاعة الحاكم المسلم، فيزاد على ذلك بالقول بطاعة الحاكم الكافر، أو حينما يأمر بطاعة الحاكم في غير المعصية، فيزاد على ذلك بطاعته في المعصية، أو حينما يأمر بعدم قتاله ومنازعته إذا أقام الشرع فيزاد على ذلك بمنع الإنكار عليه إذا خالف الشرع … ونحو ذلك، فكل ذلك من الغلو في الطاعة، والابتداع في الدين.
وهذه الأمثلة البسيطة قد تجاوزها واقع غلاة الطاعة في جنوحهم بهذا المفهوم، حتى تورط بعضهم في المساس بحدود الدين ومقاربة الكفر والنفاق، لهثًا خلف طاعة مزعومة للأمراء!
سمات غلاة الطاعة:
إن من أهم سمات غلاة الطاعة هو إنكارهم لوجود الغلو في طاعة الأمراء، فالعمى عن هذا الانحراف علامة التخبط فيه، وتجدهم مع ذلك يثبتون وجود الغلو في مسائل أقل خطرًا من مسألة طاعة الحاكم، ولا ينتبهون له في هذه المسألة مع اشتداد الداعي له!
ومن سماتهم: كثرة اللهج بهذه المسألة، بأكثر من مسائل الدين الأخرى التي يحتاجها الناس، ونصب الولاء والبراء عليها، وكأنها ركن من أركان الإسلام، لأنهم خرجوا بها عن سياقها في دين الله إلى الزيادة والتجاوز والغلو في أفهامهم وأنظارهم.
ومن سماتهم: الخروج عن الحديث الموضوعي المدعم بأقوال العلماء وأدلة الشرع، إلى الهجوم والانفعالات والأطروحات الحدية، وربما يصل الأمر إلى السباب والشتائم في حديثهم عن هذه المسألة.
ومن سماتهم: تعظيم العلماء المعينين من الأمراء، والإعراض عن العلماء الآخرين ولو كانوا أعلم منهم، مع أن سنة السلف وآثارهم تأمر بالابتعاد عن السلاطين وتجعل القرب منهم علامة على خطر الوقوع في الانحراف!
ومع أن المعيار الصحيح لأهل العلم هو نتاجهم العلمي ودعوتهم لله، وليس قربهم من الحكام الذين صار أكثرهم في الأزمان المتأخرة لا يأبهون للدين، يقول ابن تيمية: (كثيرًا ممن يتولى التدريس بجاه الظلمة الجهال يكون من أجهل الناس وأظلمهم، ولكن الذي يدل على فضيلة العلماء: ما اشتهر من علمهم عند الناس، وما ظهر من آثار كلامهم وكتبهم) منهاج السنة 4-135
إن الإشارة في هذه الفقرة للسمات البسيطة الأولية فحسب، وسيأتي الوقوف مع المزيد من أقوالهم ومخالفاتهم في مواضعها إن شاء الله.
تاريخ الغلو في طاعة الأمراء:
يعتبر النظر في تاريخ المقالات والأفكار عملاً مهمًّا، فمنه يُعرف تشابه الضلالات ونوازعها الإنسانية، وتطوراتها وما لحق بها من تغير، فمقولات الضلال متشابهة ولها جذور عميقة في النفس الإنسانية، في أي زمان ومكان.
ومن أوجه النقض على فكرة الغلو في طاعة الحاكم: مقارنتها بمقالات الغلاة القدماء، سواء في تاريخ الإسلام أو عند غير المسلمين، وبتلك المقارنة تكتشف علاقتها بالجهل والظلم الإنساني والنزعات السلطوية والتحكمية، مهما أوهمت أن لها علاقة بنصوص الكتاب والسنة.
وهذه الفقرة سوف تسلط الضوء على تاريخ الغلو في الإسلام، أي منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى عصرنا الحديث، ما يتعلق منه بتطور الفكرة وما أضيف لها فحسب.
حيث حاولت هذه الفكرة الإطلال مبكرًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قضى عليها وحذر منها، تمثل ذلك في حادثة السرية التي أمّر عليها صلى الله عليه وسلم أميراً، وأمرهم بطاعته، فلما خرجوا غضب عليهم، وأمرهم بإشعال نار والدخول فيها، فاختلفوا في طاعته، ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لو دخلوا فيها ما خرجوا منها، إنما الطاعة بالمعروف) أي: لكان مصيرهم النار في الآخرة.
وهذا الحديث في غاية الوضوح والصرامة في مسألتين:
الأولى: الوعيد الشديد بالنار على من يطيع الأمير في معصية الله، ولو بإلحاق الأذى بنفسه، فكيف بمن يطيعه بإلحاق الأذى بغيره ظلمًا وعدوانًا؟!
وإذا كان هذا في الأمير الذي عينه المصطفى، فكيف بالأمير الذي حصل على الإمارة بطريق غير شرعي؟!
بل كيف بالأمير الذي لا يحكم بشريعة المصطفى ولا يرفع بها رأساً أصلاً؟!
الثانية: في بيان حدود الطاعة، وأنها بالمعروف وليست مطلقة، وهذا المعروف يختلف باختلاف حال الحاكم نفسه، وعدالته من فسقه، كما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، غير أن الجامع لكل الصور: أنه لا يطاع فيما يخالف الشرع تحت أي ظرف، فحرمة الله ورسوله أعظم من حرمة الأمير مهما كان.
وفي عصر الخلافة الراشدة، ظهرت بعض الممارسات التي تجنح للغلو في طاعة الحاكم، إلا أن وجود الصحابة بما معهم من الإيمان والسنة كان كفيلاً بوأدها في مهدها ومجابهتها، ومن ذلك:
كثرة مدح الأمير: ففي صحيح مسلم أن رجلاً مدح عثمان رضي الله عنه، فقام المقداد يحثوه بالتراب وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (احثوا في وجوه المداحين التراب).
وإذا كان فهم الصحابة للحديث تناول من يمدح الخليفة الراشد الذي هو أحد السابقين في الإسلام، فكيف بمن يمدح الأمراء التاركين لشرع الله؟! والمعرضين عن دين الله؟! بل كيف بمن يوجب مدحهم ويجعله علامة للولاء والبراء؟! وهل يكون هذا غير غلو وابتداع في الطاعة ينسب لدين الله والدين منه براء؟!
التجسس للسلطة: ففي البخاري ومسلم أن رجلاً جاء لحلقة حذيفة بن اليمان في المسجد وكان يرفع الحديث للأمير، فقال حذيفة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة قتات) إرادة أن يسمعه.
فانظر كيف أنزل الصحابة حكم رسول الله في النمَّام على من ينقل الحديث بين الحاكم والمحكوم، ولم يستثنوه، في حين لا يكتفي غلاة طاعة الأمراء باستثناء النميمة للسلطان، بل يجعلونها عملاً مشروعًا وواجبًا مقدسًا، ويفتون من يسألهم عن سبِّ الحكام المعرضين عن دين الله بإبلاغ السلطات عنهم، فيجعلون من الدين ما يحرمه الدين وينهى عنه، بل وما تنفر منه العقول السليمة والفطر المستقيمة من مساوئ الأخلاق!
الطعن في الخارجين على الأمراء واستحلال دمائهم وأعراضهم: ففي أحداث الفتنة، سمع عمار رضي الله عنه رجلاً يسب عاشة رضي الله عنها، فأسكته، وقال كلمة تشكل قاعدة منهجية عظيمة: (والله إنها زوجة نبيكم في الدنيا وفي الجنة، ولكن الله ابتلاكم بها لينظر هل تطيعونه أم تطيعونها؟!) فقطع الطريق بفقهه رضي الله عنه على من يطعن في الخارج على الخليفة الراشد دون نظر في تأوله، وحفظ مكانة أم المؤمنين ولم يهدرها، وهذا ما لا يتسق مع الأصول المنهجية لبدعة غلاة الطاعة التي لا تنتظر الخروج على الحاكم حتى تهدر مكانة العلماء والدعاة، بل تكتفي بالبعد عنه وعدم مدحه فضلاً عن التعرض لظلمه وابتلائه بالسجن ونحوه!
وكذلك لما قتل ابن جرموز الزبير بن العوام، وجاء يبشر عليًّا، فقال رضي الله عنه: بشر قاتل الزبير بالنار، فحفظ مكانة مخالفيه مع كونه من الخلفاء الراشدين، فكيف بمن يهدر مكانة أئمة الدين، لأجل ابتعادهم عن الأمراء الظالمين، والمبدلين لدين الله؟!
وهكذا برزت بعض المقولات التي تتفق مع الغلو في طاعة ولي الأمر في عصر الخلافة الراشدة إلا أن فقه الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة قد أنكرها ولم يعطها مجالاً للاستمرار.
أما العصر الأموي: فبمقدورنا أن نعتبره عصر التأسيس للغلو في طاعة الأمراء، حيث حظيت هذه البدعة بأجواء أتاحت لها أن تعلن عن نفسها وتفصح عن أدبياتها، فشهد هذا العصر تطورًا لافتًا لها في مجالين:
الأول: خرجت هذه البدعة من كونها ممارسات فردية يتم إنكارها، إلى أن أصبحت ظاهرة شعبية تحظى بتشجيع سياسي واعتماد عليها، وتمثل ذلك في أنصار بني أمية بالشام، الأمر الذي اقتضى من بعض علماء الإسلام سك مصطلح جديد يعبر عن هذه الطاعة البدعية، وهو (الطاعة الشامية) وقد استعمله المحققون من أهل العلم في نقد هذه البدعة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
الثاني: خرجت هذه البدعة من دائرة طاعة الحاكم فحسب إلى مسائل أخرى يشكل تحريفها خدمة للحاكم، فظهرت بدعة الإرجاء وفرقة المرجئة، وتولى كبر هذه البدعة غلاة الطاعة، وكان ذلك منهم بعدما انكسر القراء في فتنة ابن الأشعث كما ذكره علماء السلف، فكان المشهد العام مواتيًا لغلاة الطاعة بعدما انتصر حاكمهم على مناوئيه، وصرحوا بمقولة تخرج الأعمال عن مسمى الإيمان، ووجدوا في مثل هذه المقولة تسويغًا لمنكرات الحكام والأمراء، ومحافظة على إيمانهم مهما فسقوا وفجروا بأعمالهم.
ومن المظاهر والمقالات التي تبلورت في العصر الأموي لغلاة الطاعة ما يلي:
أولًا: تسمية من ينازع الحاكم خارجيًّا ولو كان من أهل السنة، متجاوزين بذلك ما حصل في الخلافة الراشدة من التمييز بين الخوارج وغيرهم من المتأولين.
ثانيًا: استحلال دم الخارج على الأمير، وقتاله مع الأمير تعصبًا، دون التفات لأمر الشرع بالإصلاح والتحاكم للشريعة، كما حصل في قتل الحسين رضي الله عنه، وقتل أهل الحرة، والفقهاء في فتنة ابن الأشعث ومطاردة من هرب منهم، وهو موقف رفضه السلف وأجمع على رفضه المسلمون من بعدهم، فترحموا على هؤلاء القتلى، واعتقدوا أنهم مظلمون – كالحسين رضي الله عنه وسعيد بن جبير وغيرهم – بل وسموا قائد وقعة الحرة من جهة يزيد – مسلم بن عقبة – مسرفًا ومجرمًا، لما فعله بأهل المدينة، واعتقدوا ظلمه وبغيه، في حين كان هو يتقرب لله بقتال أهل الحرة!
وهكذا يصل الأمر بغلاة الطاعة إلى اعتقاد أن الظلم والبغي وسفك الدم الحرام قربان وطاعة، عياذًا بالله من انتكاس المفاهيم وانحرافها.
ثالثًا: المبالغة في حسنات الأمير والاعتقاد أنها تغفر سيئاته، فمهما حصل منه من تجاوز فإنه مغفور له، لما له من حسنات عظام، ويُذكر أن يزيد بن عبدالملك أراد أن يسير بسيرة عمر بن عبدالعزيز من بعده، فجاءه مجموعة من هؤلاء يقسمون له أن سيئات الأمير مغفورة لما له من حسنات، وأصبحت هذه المقولة مركزية الحضور بعد ذلك في تسويغ الغلو في طاعة الأمير والزيادة في مكانته، والإغضاء عن تجاوزاته مهما كانت كثيرة!
رابعًا: الاعتقاد بطاعة الأمير مطلقًا دون تقييد الطاعة بالمعروف كما جاء في الحديث، ذكر الشيخ المعلمي اليماني رحمه الله أن من أسباب تكفير بعض السلف للحجاج بن يوسف الثقفي: تصريحه بوجوب طاعة الخليفة مطلقًا في كل ما يأمر به، دون تقييد الطاعة بالمعروف.
يقول ابن تيمية ملخصًا مظاهر الانحراف في طاعة ولي الأمر في العصر الأموي: (فكثير من أتباع بني أمية أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك، وكلامهم في ذلك معروف كثير، وقد أراد يزيد بن عبدالملك أن يسير بسيرة عمر بن عبدالعزيز، فجاء إليه جماعة من شيوخهم، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو، أنه إذا ولى الله على الناس إمامًا تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عن السيئات، ولهذا تجد في كلام كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقًا، وأن من أطاعه فقد اطاع الله، ولهذا كان يضرب بهم المثل يُقال: طاعة شامية) منهاج السنة 6-430
أما في العصر الحديث: فقد تطور من مقالات غلاة الطاعة، الأمر بطاعة الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله كلية، والمجادلة عن الحكم بغير ما أنزل الله أنه ذنب من جملة الذنوب، وأنه لا ينزع شرعية الحاكم، مع أن كل النصوص التي يعتمدون عليها في طاعة الأمير إنما تذكر إقامة الدين والشرع، فجاء هؤلاء ليقولوا إن الشرع يأمر بطاعة من لا يحكم بالشرع!
خطورة غلاة الطاعة وأهمية مواجهتهم:
إن بدعة الغلو في طاعة الأمراء عظيمة الخطر على الدين، وتستمد خطورتها من جهة خطورة الحاكم ودوره في التأثير على الأفكار، فهو يملك السلطة المادية التي بموجبها ينقاد له معظم الناس، كما يملك محاربة من يحمل الفكرة الصحيحة ومعاقبتهم، وتشويه رسالة الهدى والصدَّ عنها، ولذا اعتبر السلف فساد الملوك من أعظم مفسدات ديانة العوام، على حد قول ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها.
ولذا تكرر في القرآن التحذير من اتباع الكبراء والمعظمين، وأنه من أكبر أسباب دخول النار، وجاء في الحديث: (أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون) قال ابن تيمية: هم الأمراء .
ولذا فإن مواجهة هذه البدعة والتذكير بما ورد في السنة وما قرره السلف بشأن الأمراء، وما قرره أهل العلم في مسائل السياسة الشرعية، هو ضرورة لحفظ الدين، من تحريف الغالين وعبث العابثين.