السعودية على خطا قريش…من يسيس الحج؟!

سيد الأحابيش، الحليس بن علقمة، كان أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أن يتخلى عن عزمه أداء العمرة، وهو في طريقه متوجهًا إلى مكة المكرمة مع مئات من صحابته الكرام رضي الله عنهم.

ولأن الحليس كان من «قوم يتألهون»، كما قال صلى الله عليه وسلم، أي يتعبدون، فقد هاله أن يرى الهدي، وقد أكلت القلائد من أوبارها من كثرة ما حُبست في محلها بانتظار حلِّ مشكلة صد قريش المحرمين عن أداء عمرتهم!

فانزعج الحليس من هذا المشهد، وعاد لقريش إعظامًا لما رأى قبل أن يصل للنبي صلى الله عليه وسلم قائلًا لزعمائها: يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل؛ صد الهدى في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله! قالوا له: اجلس فإنما أنت إلا رجل أعرابي لا علم لك.

فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصدُّ عن بيت الله من جاءه معظمًا له؟! والذي نفس الحليس بيده، لتخلنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا: مه كفَّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

لم يُرد الحليس يومها أن «تُسيس المناسك»، لكن زعماء قريش سيَّسوها، استخفوا بالحليس؛ فترآى لهم «درويشًا» أو «أعرابيًا ساذجًا» لا يفهم في ألاعيب السياسة ودهاليزها!

لم يحسموا أمرهم بعد، فما زالوا حيارى بين قيمهم ومثلهم التي ظلوا يعتزون بها، وحنقهم وغضبهم ومقتهم لأصحاب هذا الدين، وكان موقفهم المبدئي هو التنكر لتلك القيم والمثل التي ساروا عليها طيلة حياتهم «الجاهلية»؛ فوقفوا حاجزًا أمام قاصدي بيت الله الحرام، ولم يسمحوا لهم بالمرور إلا بتحقيق شروط «سياسية» تخالف حيادهم المعتاد حيال أعدائهم ومخالفيهم «السياسيين».

فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصدُّ عن بيت الله من جاءه معظمًا له؟! والذي نفس الحليس بيده، لتخلنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا: مه كفَّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ولأن الغرض مرض؛ فإن من أعاجيب الدهر أن هذا الأعرابي «الساذج» قد سبق صناديد قريش المحنكين في تقدير الأمور؛ فأي قيمة لقريش من دين مُثُلها وقواعدها الراسخة؟!

لقد دالت زعامة قريش في الجاهلية منذ ذلك الحين، بل تسارعت خطاها يوم سارت في عكس اتجاه الأصول والقواعد الناظمة لشأن الحرم، فزالت هاتيك الزعامات، وأحلَّ محلَّها من يرجون لله وقارًا وللبيت حرمته المقدسة.

منذ ذلك الحين، حمل الصناديد عصيَّهم ورحلوا تاركين شرف خدمة البيت الحرام للمسلمين، بعد تنكُّر زعماء قريش لأبسط القواعد الناظمة لخدمة البيت الحرام حينئذ.

قال قتادة في قوله تعالى: {جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَامًا لّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْىَ وَٱلْقَلَـٰئِدَ} [المائدة:97]: «حواجز أبقاها الله في الجاهلية بين الناسِ، فكان الرجل لو جرّ كلَّ جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل لو لقي الهدي مقلَّدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلّد قلادة من شعر فأحمته ومنعته من الناسِ، وكان إذا نفر تقلّد قلادة من الإذخر أو من السمر فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية».

هذا الالتزام كان ينقله الآباء للأخلاف حتى هذه المحطة، وصار الالتزام الإسلامي بتعظيم بيت الله الحرام، وحماية ورعاية زواره قائمًا على مرِّ الدهور، عدا استثناءات تاريخية مخجلة، كهذه التي نراها اليوم مع منع حجاج ومعتمرين قاصدين البيت الحرام من بلوغه لأنهم يختلفون «سياسيًّا» مع حكام السعودية!

وكلما مضت السنون الأخيرة طالت قائمة الممنوعين حتى شملت زوارًا للبيت ليسوا في النطاق الجغرافي القريب من السعودية، ولا تكاد تمثل معارضتهم لبعض أفعال الحكم السعودي تأثيرًا مباشرًا يمكن أن يثير قلق الحكام، كحالة الشيخ النيجيري أحمد أبو بكر جومي، ابن الشيخ أبو بكر محمود جومي، الذي حصل على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام ١٩٨٧ لأسباب منها: «جهاده من أجل تحرير وطنه»، فهو وإن كان يعارض فشو الفساد الأخلاقي في فعاليات الترفيه بالسعودية إلا أنه لا يمثل تهديدًا للسعودية، ولا يمكنه إظهار معارضته وانتقاداته تلك أثناء الحج، لا هو ولا غيره من المعارضين الآخرين.

هذا فضلًا عمن لا يمثلون معارضة للنظام السعودي ممن تهفو قلوبهم لزيارة بيت الله الحرام، كناشطي الأويغور التركستان وأضرابهم ممن يعارضون نظم حكم تجاملهم الرياض على حساب أدائهم ركن الإسلام الخامس!

هذا الالتزام كان ينقله الآباء للأخلاف حتى هذه المحطة، وصار الالتزام الإسلامي بتعظيم بيت الله الحرام، وحماية ورعاية زواره قائمًا على مرِّ الدهور، عدا استثناءات تاريخية مخجلة، كهذه التي نراها اليوم مع منع حجاج ومعتمرين قاصدين البيت الحرام من بلوغه لأنهم يختلفون «سياسيًّا» مع حكام السعودية!

وهذا الإجراء يعطي إحساسًا زائفًا بالقوة والشكيمة وفرض الإرادة والهيمنة على الحرمين، وفتح بوابتيهما لمن ينال الرضا الملكي أو لا يعارضه، غير هذا الشعور الزاهي هو هو من تملَّك زعماء قريش وهم يستخفون برأي الحليس، وقد كان هو عين العقل يومئذ!

فكما أدى «تسييس» العمرة في الماضي بفتح الباب لمن ترضى عنه قريش إلى التعجيل بفتح مكة؛ فإن «تسييس» الحج في وقتنا الحاضر قد يؤدي إلى منح المتربصين كإيران، وغير المتربصين من غيرها، ذريعة قوية لتدويل الحرمين، والسعودية في غنى عن تقوية هذه الدعاوى التي غالبًا ما ستؤدي إلى غير صالح المسلمين، وغير صالح السعودية، التي يقوم أهلها بخدمات كثيرة للحجيج وزوار الحرمين ربما أفضل مما لو تم تدويلهما.

كان الأحرى بالسعودية أن تتحلى بالحصافة والحكمة لتنحي الاختلافات السياسية عن التصريح أو عدم التصريح لمريدي زيارة الحرمين والحج والعمرة، ولتجعل من منطقة الحرمين منطقة خاصة آمنة لكل قاصد لبيت الله الحرام مستوفٍ للشروط الناظمة للزيارة، والتي اتفقت عليها الدول الإسلامية من قبل، بغض النظر عن موقفه السياسي، ثم يكون من حقها أن تتعامل معه بشكل آخر إن هو قصد غير مكة والمدينة، فهذا شأنها!

وقد كانت الأمة الإسلامية لتعظم هذه السياسة التي لا تسد الباب أمام التائبين عبر الحج، وتسد الباب أمام كل مغرض يرفع دعوة حق يراد بها باطل.

ورغم أن الحج ميدانٌ لاجتماع كلمة المسلمين، وإظهار مواقفهم الموحدة في القضايا الإسلامية العامة، إلا أن السعودية لو فرضت تعهدًا على كل معارض لها بعدم ممارسة السياسة أثناء الحج والعمرة، لربما كان ذلك مقبولًا عن منع قاصدي بيت الله الحرام، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الدينية، وهي أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، ونيل غفران الله سبحانه وتعالى والتوبة النصوح في بيته الحرام! ذلك أقسط وأقوم وأدنى ألا تتسع الهوة وتتعالى المطالب بتدويل الحرمين الشريفين بسبب تعنت لا طائل من ورائه، ولا يجلب إلا الخسارة!