ولا تطيعوا أمر المسرفين

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وآلهم ومن بهداهم اهتدى، وبعد،

فإن من محكمات الكتاب النهي عن طاعة السادة والكبراء المائلين عن الحق، وقد جاءت نصوص بذلك مطلقة، كقول الحق عز وجل: ﴿وَإِذِ ‌ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 124].

قال الشوكاني رحمه الله: “هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالمًا، وإنما قلنا إنه في معنى الأمر؛ لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف، وقد علمنا أنه قد نال عهدُه من الإمامة وغيرها كثيرًا من الظالمين”1.

وقال سبحانه: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا ‌أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ [سورة الأحزاب، آية: 67-68]، وقال تعالى:﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ ‌الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [سورة الشعراء، الآية: 151-152]، والمسرف كما قال بعض أهل العلم: المتجاوز لحد الشرع، وكل مسرف مفسد بإسرافه غير مصلح، والآية وإن كانت في سياق التسعة المفسدين من قوم صالح فإن معناها يشمل كل مسرف من الكبراء.

وفي معنى هذه الآيات نصوص من السنة، من أظهرها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: “ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”، ووقع في بعض ألفاظه: “إنها ستكون أمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون”.

فإن من محكمات الكتاب النهي عن طاعة السادة والكبراء المائلين عن الحق، وقد جاءت نصوص بذلك مطلقة، كقول الحق عز وجل: ﴿وَإِذِ ‌ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 124].

وفي معناه أحاديث أخرى لا تخلو من مقال كحديث ابن عباس: “سيكون أمراء يعرفون وينكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك”، ويغني عنها ما تقدم في صحيح مسلم.

ولئن كانت الآيات المتقدمة تتضمن النهي عن الطاعة المطلقة لمن أسرف من الأمراء وظلم، فإن في هذا الحديث زيادة عن النهي عن طاعة الأمراء في تجاوزهم وإسرافهم، وذلك بالأمر بالإنكار عليهم، والنص الصريح على أن ذلك قد يكون باليد مع القدرة، وقد فرق الأئمة بين الإنكار باليد، والخروج عليهم بالسيف، أما قول من سمى إنكار المنكر باللسان خروجًا فمن بدع الأقوال المعاصرة! وقائله إن كان من الفضلاء متأولًا، فحقه أن يستغفر له، وأن يستر لا أن يذكر، أو يحتج به، ويتابع عليه.

على أن أصل تغيير المنكر بالسيف موضع خلاف قديم، لكن عامة من لم ير الخروج بالسيف على الفاسق أو الظالم من الأئمة قد أنكروا المناكر، فلا تراهم ينكرون على الخارج، ثم يقرون الفاسق الظالم! لا على أصل منكره، ولا في حربه أو سجنه الخارج عن طاعته، بخلاف بعض متسلفة هذا العصر!

وهؤلاء لو كانوا عند الحسين رضي الله عنه ما كانوا إلَّا في عداد قاتليه، الذين أجمع أهل السنة على ذمِّهم، وعلى إنكار المنكرات التي ثار لأجلها، رغم مخالفتهم له في أمر المنازعة على السلطة. وحسبك ما تراه من وقوفهم ضد النصحة البررة والمطالبين بالحقوق اليوم بألسنتهم أمرًا بالمعروف وإحقاقًا للحقوق.

وجواز الإنكار باللسان، والمطالبة بالحق، لم يعده من الخروج أحد من أئمة السنة في شيء، بل هو جادتهم، بل نص بعضهم على أن التغيير باليد لا يستلزم المنازعة المنهي عنها والقتال، ومن هؤلاء الإمام أحمد، الذي أنكر مذهب الدولة الرسمي علانية أمام الخليفة وخَلْفَه قال وألف وناظر وهجر من أطاع الدولة وأظهر موافقتها، وذلك في عهود ثلاثة من خلفاء بني العباس.

قال الحافظ ابن رجب في أثناء تقريره قول الإمام في سياق شرحه حديث مسلم المتقدم: “التَّغييرُ باليد ليسَ بالسَّيف والسِّلاح، وحينئذٍ فجهادُ الأمراءِ باليد أنْ يُزيلَ بيده ما فعلوه مِنَ المنكرات، مثل أنْ يُريق خمورَهم أو يكسِرَ آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبطل بيده ما أمروا به مِنَ الظُّلم إن كان له قُدرةٌ على ذلك، وكلُّ هذا جائزٌ، وليس هو من باب قتالهم، ولا مِنَ الخروج عليهم الذي ورد النَّهيُ عنه، فإنَّ هذا أكثرُ ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده. وأما الخروج عليهم بالسَّيف، فيخشى منه الفتنُ التي تؤدِّي إلى سفك دماءِ المسلمين. نعم، إنْ خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهلَه أو جيرانه، لم ينبغِ له التعرُّض لهم حينئذ، لما فيه مِنْ تعدِّي الأذى إلى غيره”2.

على أن أصل تغيير المنكر بالسيف موضع خلاف قديم، لكن عامة من لم ير الخروج بالسيف على الفاسق أو الظالم من الأئمة قد أنكروا المناكر، فلا تراهم ينكرون على الخارج، ثم يقرون الفاسق الظالم! لا على أصل منكره، ولا في حربه أو سجنه الخارج عن طاعته، بخلاف بعض متسلفة هذا العصر!

ففرق بين خلع السلطان أو الخروج عليه وقتاله، وبين الإنكار عليه، والتغيير باليد لما ظهر من المنكرات التي أقرها، كما فعل من جبذ من رام الخطبة بردائه، وكل ذلك يسمى جهادًا في الإطلاق الشرعي فإن الجهاد في نصوص الشرع أعم مما اصطلح عليه الفقهاء في كتاب الجهاد، كما نبه على ذلك المحققون. لكن الإنكار باليد كثيرًا ما يُحفِظ ولا يجدي ويؤلب على الناصح بسببه، أو يفضي إلى النزاع فلذلك يجب أن يتحرز فيه، وتتحرى فيه المصلحة، فلا يسوغ لكل أحد في كل وقت وذلك لأمر المفسدة الخارج عن مسألة الخروج.

وما تقدم يدل على أن نصوص الأمر بالمعروف العامة تجري على العامة والخاصة، كما استدل أبو سعيد رضي الله عنه، بحديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)3، وقريب منه قوله: (لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا)، فهذا ونحوه حكمه عام، والاستثناء منه أو التخصيص بالرأي معارضة للظاهر.

أما أصل القضية، وهي النهي عن طاعة المسرف من الولاة والحكام، في إسرافه ومداهنته فيما تجاوز فيه؛ فالنهي عن ذلك موضع إجماع، فالفاسق متى أمرهم بالفجور وساسهم به، كان الإجماع على عدم طاعته فيه، عند أهل السنة، فهم كما قال محققوهم: “لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلَّا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوِّزون طاعته في معصية الله وإن كان إمامًا عادلًا، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه- مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصدق، والعدل، والحج، والجهاد في سبيل الله- فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله! ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه، ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق!

فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقًا، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء: 59]، فأمر بطاعة الله مطلقًا، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله،(من يطع الرسول فقد أطاع الله) [النساء: 80]، وجعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك فقال: (وأولي الأمر منكم)، ولم يذكر لهم طاعة ثالثة؛ لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة إنما يطاع في المعروف” [منهاج السنة 3/387].

فهذا قول أهل السنة في الإمام العدل دع من عداه، فـ”الإمام الحق ليس معصومًا، ولا يجب على الإنسان أن يقاتل معه كل من خرج عن طاعته، ولا يطيعه الإنسان فيما يعلم أنه معصية لله أو أن تركه خير من فعله” [منهاج السنة 4/393]. فإذا كان هذا قول أهل السنة في الإمام الحق، فكيف بإمام الجور، الذي يطالبه المظلوم بحق؟!

وقال ابن خويز منداد: “وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان فيه طاعة، ولا تجب فيما كان فيه معصية. ثم قال: ولذلك قلنا: إن أمراء زماننا لا تجوز طاعتهم، ولا معاونتهم، ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم، وتولية الإمامة والحسبة، وإقامة ذلك على وجه الشريعة”.

فتأمل! يقول هذا في أمراء زمانه، وقد مات رحمه الله في القرن الرابع (ت:390ه)!

فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقًا، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء: 59]

وقال عبد الغني النابلسي: “هل منع السلاطين الظلمة المصرين على المصادرات وتضييع بيوت المال وإقرارهم القضاة وغيرهم على الرشوة والظلم يثبت حكمًا شرعيًّا!

وقد قالوا: من قال لسلطان زماننا: عادل كَفَرَ”! نقله ابن عابدين ثم قال: “أقول: مقتضاه أن أمراء زماننا لا يفيد أمرهم الوجوب، وقد صرحوا في متفرقات القضاة عند قول المتون: أمرك قاض برجم أو قطع أو ضرب قضي فيه، وَسِعَكَ فعلَه؛ بقولهم لوجوب طاعة ولي الامر، قال الشارح هناك: ومنعه محمد حتى يعاين الحجة، واستحسنوه في زماننا”.

فإذا كان هذا في الحدود والأحكام الشرعية فكيف بغيره؟!

بل منع بعضهم من إجابتهم فيما تجب فيه إجابة عامة الناس أو تندب ندبًا شديدًا، ونصوا على سقوط سنية إجابة دعوة أمراء أوقاتهم ولو لم يوجد منكر، قال في بريقة محمودية: “إذا كان الداعي فاسقًا معلنًا، أو أهل ربا، أو أمراء زماننا، أو قضاته ولم يوجد منكر تسقط سنية الإجابة، بل يستوي الأمران”، فليتأمل هذا من يعارض ربَّ العالمين، ويطلق الأمر بطاعة أمر المسرفين، لتدرك بعده بُعد تأويله، بل الواجب أن يقرر منع طاعتهم اختيارًا إلاّ فيما ظهرت مصلحته، وعرفت فائدته، وما أشكل من ذلك يرجع فيه إلى ولاة الأمر من علماء الحق، الذين عُرفوا به، وفي كل أمة قوم يهدون بالحق وبه يعدلون.

والله الموفق وهو يهدي السبيل.

1فتح القدير1/138.

2انظر جامع العلوم والحكم ص322.

3صحيح مسلم(49).