بالأمس جاء خبر قتل بعض الظلمة في صنعاء للشيخ صالح الحنتوس رحمه الله والذي عرف بنشاطه الدعوى، وعمله في تحفيظ القرآن وتعليمه، وقد كان مقتله جرمًا يتفق عليه العقلاء، وهذا هو الواجب، ولا يخفف من شناعة الجريمة، بل يزيدها ما أذاعه بعض الموالين للنظام الحوثي وأعلنوه من التسبيب بأنشطة مشبوهة وادعاء بأن القرآن ستار لأنشطة ممنوعة… في مشهد يذكرنا ببعض مسرحيات بيانات الداخلية السعودية! وعرائض الادعاء في الجزائية المتخصصة، وهذا الأسلوب لا يروج إلَّا عند الأتباع الرعاع ضعاف العقول، أو أصحاب المصالح الذين يقفون مع الظالمين بذرائع شتى، وإلَّا فالتهم تثبت في محاكم عدلية، والجرائم تؤيد ببينات شرعية، حتى إن قدر أن الحنتوس قتل٬ فما لم يقع القتل بالحكم الشرعي والتسبيب وفقًا لجرائم محققة في الشرع، بأدلة تقوى على إثباتها، في محاكمات شفافة بإجراءات صحيحة، فيبقى البيان مجرد ثرثرة ودعوى، والإعلان لا يخرج عن حقيقة الادعاء! ويبقى لدينا قاتل ومقتول، وظالم ومظلوم.
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء!
أدعياء لا يجوز تصديقهم، ولا الوقوع في عرض مسلم بسببها، فضلًا عن تأييدهم في الجريمة، أو الدفاع عن الجرم الذي وقع منهم، ولله ما أعظم حماقة من أبى إلَّا الاشتراك في دم سلَّمه الله منه! أو ظلم كان يسعه فيه أن يسكت، فأبى إلَّا الخوض فيه، وهكذا كثير من المخذولين يشتركون في دماء مظلومين عافاهم الله منها، يأبون إلَّا التلوث بها، والاشتراك مع الظالم في نصيب منها! والولوغ فهيا بألسنتهم تسويغًا للظالمين واعتذارًا عنهم، وتزلفًا إليهم بالخسة والنذالة تعديًا على جثمان وجنازة وعرض المظلوم القتيل!
ولله ما أعظم خيبتهم إذا ثبتت أوزارهم، ولم يلتفت الظالم إليهم كما هو واقع كثير منهم، باع دينه بلا شيء! بل لو التفت الظالم إليهم وأكرمهم، لكان كلا شيء عند من عرف حقيقة الدنيا، وما ينتظره بعدها.
ومع كون النصوص صريحة في أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأن خير الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله فقتله! إلَّا أن ثمة قوم من مبتدعة الطاعة- وهم في كل مذهب- يرون أن مذهب أهل الحق ترك الحق لأجل جور سلطان جائر! يريد أن يتغول عليه، بل يرون معارضته في ذلك بقول أو فعل خروجًا عليه! على أصلهم الفاسد في أن الطاعة على جلد الظهر وأخذ المال هي طاعته في الفعل الحرام خلافًا لإجماع العلماء، ولا يفسرونها بما فسرها به العلماء من لزوم الجماعة وترك منازعة الملك.
ولله ما أعظم حماقة من أبى إلَّا الاشتراك في دم سلَّمه الله منه! أو ظلم كان يسعه فيه أن يسكت، فأبى إلَّا الخوض فيه، وهكذا كثير من المخذولين يشتركون في دماء مظلومين عافاهم الله منها، يأبون إلَّا التلوث بها، والاشتراك مع الظالم في نصيب منها! والولوغ فهيا بألسنتهم تسويغًا للظالمين واعتذارًا عنهم، وتزلفًا إليهم بالخسة والنذالة تعديًا على جثمان وجنازة وعرض المظلوم القتيل!
فثمة أمران هنا:
- مشروع بالإجماع وهو قول الحق، والامتناع عن الظلم والمطاوعة على الباطل اختيارًا.
- وممنوع وهو نزع يد الطاعة، ومنابذة الظالم ومنازعته، مع مفارقة الجماعة. وأما القدر الزائد عن الامتناع بحق، وعن القول بالحق، وفعل مقتضاه، وهو منازعة الملك، فما بين اجتهاد له وجه إن لم يصاحبه تعد على الجماعة، وما بين منكر من جنس منكر السلطان الجائر الظالم، ينهى عنه كما ينهى عن ذلك، ولا يعان هذا في عنفه وتركه السلمية، ولا ذاك في بطشه وتغوله على الحقوق، وينهى عما عليه كلاهما، ويعارض هذا وذاك.
أما الأول فالمعارض له معارض للمشروع يجعل المظلوم ظالمًا، ويقف مع الظالم باسم الطاعة وهؤلاء هم مبتدعة الطاعة، الذين يرون أن قتل الحسين رضي الله عنه لما أبى أن يستأسر كان حقًّا، تلك حقيقة مذهبهم التي لا يصرحون بها! قاتل الله قتلته وكل من وقف مع القتلة الظلمة!
ماذا ينقمون على الحنتوس؟! مخالفة أهوائهم بتعليم الكتاب والسنة؟!
أو ينقمون عدم تركه لمنزله ومقره الذي دمروه لئلا يتصل التعليم فيه؟!
كل ذلك منكر، وباطل يحق للحنتوس أن يدفعه، وموته في سبيل ذلك، يرجى أن يرتقي به شهيدًا إلى ربه.
ومثل الحنتوس رحمه الله عبد الرحيم الحويطي رحمه الله، فقد سبقه في الذب عن حقه، دون أن يتجاوز المشروع، هذا لم يخرج عن بيته مقدار أنملة! وإنما دافع عن أرضه من قصده فيها، وذلك كذلك دافع عن داره ونشاطه أو عمله، والحويطي ظلمه أظهر إذ لم يكن له نشاط تنكره الدولة، أو تتأول أنه يعارضها، ولكنها أرادت أرضه وداره، وذلك كان له نشاط مشروع تعارضه الدولة، وترى أنه يتعرض لها، فتعدى عليهما الظالمون بدون حق، وقصدوهم بالأسلحة والعتاد، فقام أصحاب الحق بالمشروع من الدفاع عن الحق الذي هو لهم، فقُتلوا في سبيل ذلك، وإنا لنرجو أن يكون قتلهم شهادة لهم، ورفعة في درجاتهم، موقنين بأن الحَكَم العدل سيقتص لهم ممن ظلمهم، أو شارك في ظلمهم بكتابة أو مقالة.
أما مبتدعة الطاعة فالحجة عليهم الكتاب الذي لعن الظالمين، وأمر بالقسط، وأداء الحقوق، وتوعد سافك الدم الحرام، والسنةُ التي عدَّت المطالبة بالحق من أفضل الجهاد، وسواء في ذلك من طلب الحق الذي له بلسانه أو يده، وكذلك النصوص الناهية عن الطاعة في خلاف الحق، فكيف يوجب عالم معها أن يطاع الأمير في ظلمه! وقد ثبت في خبر عبد الله بن عمرو عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: “أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله”، فمن عصى الأمير ولم يوافقه على انتزاع حق، فقد عصاه في معصية الله، وإن قُتل فقتله شهادة، بدلالة الأحاديث الصحاح التي تدل على أن من قُتل دون حقه فهو شهيد.
وكلها قد رواها عبد الله بن عمرو، فقد روى ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: اعصه في معصية الله.
وروى أيضًا الأحاديث في إثبات الشهادة لمن قتل دون مظلمته، كحديثه رضي الله عنهما، الذي فيه: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، وهذا عموم يدخل فيه السلطان الظالم، وقد احتج به راويه رضي الله عنه على من لامه على التأهب لقتال والٍ من ولاة المسلمين من أجل أرضه، كما جاء عند مسلم: لما كان بين عبدالله بن عمرو وبين عنبسة ابن أبي سفيان ما كان، تيسروا للقتال فركب خالد بن العاص إلى عبدالله بن عمرو فوعظه خالد، فقال عبدالله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، هذا وعنبسة له إدراك ورؤية، وإن كان عداده في كبار التابعين، ولَّاه معاوية رضي الله عنه مكة، والطائف، وأرض عبد الله كانت بستانًا بالطائف، جاء ذلك مفسرًا في أحاديث أخر.
ومثل الحنتوس رحمه الله عبد الرحيم الحويطي رحمه الله، فقد سبقه في الذب عن حقه، دون أن يتجاوز المشروع، هذا لم يخرج عن بيته مقدار أنملة! وإنما دافع عن أرضه من قصده فيها، وذلك كذلك دافع عن داره ونشاطه أو عمله، والحويطي ظلمه أظهر إذ لم يكن له نشاط تنكره الدولة، أو تتأول أنه يعارضها، ولكنها أرادت أرضه وداره
ولهذا كان الحسين رضي الله عنه عند أهل السنة شهيدًا مظلومًا، إذ قتل وهو داخل في الجماعة بعد أن عرف خذلان أهل العراق، ورأى ترك المسير إليهم، لكنه لم يرض أن يستأسر لمبعوث السلطان، كما قال ابن تيمية: “طلبوا منه أن يستأسر لهم، وهذا لم يكن واجبًا عليه”، وكان قتله على ذلك عند أهل السنة من الظلم العظيم [ينظر مجموع الفتاوى3/411، ومنهاج السنة4/554]، بل عده شيخ الإسلام من أعظم الذنوب بلا ريب [منهاج السنة4/559]. نعوذ بالله أن يلتبس علينا الحق فنرى أن قتل المطالب بحق أو سجنه شريعة!
أما مبتدعة الطاعة فالحجة عليهم الكتاب الذي لعن الظالمين، وأمر بالقسط، وأداء الحقوق، وتوعد سافك الدم الحرام، والسنةُ التي عدَّت المطالبة بالحق من أفضل الجهاد، وسواء في ذلك من طلب الحق الذي له بلسانه أو يده، وكذلك النصوص الناهية عن الطاعة في خلاف الحق، فكيف يوجب عالم معها أن يطاع الأمير في ظلمه!
إن أفضل الجهاد كلمة حق، وإن من الحق حقوق الناس، ومن أظهرها حق المرء في أرضه وداره، وفي تعليم كتاب ربه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي كل ما أذن له الشرع أن يأتيه، أما المنع التعسفي بغير حكم قضائي عدلي مسبب بأسباب شرعية صحيحة، فلا يعدو مصادرة الحق التي يجب أن تنكر بالقلب واللسان واليد ما أمكن ذلك.
نعم لمن خشي القتل أو الضرر الأعظم أن يترك حقه، وقد يكون ذلك أولى به في أحوال، لكن لا تكون مطالبته بحقه جريمة، ولا دفاعه عنه خروجًا عن الطاعة المأمور بها، ولا مفارقة للجماعة، ومن عجز عن نصرته في حقه فلا أقل من أن يخرس عن خذلانه، ويستغفر لذنبه، ويدعو للمظلوم، ويسأل الله زوال ظالمه.
فذلك أدنى ما يسع المسلم ليسلم والسلام.