هل طرأ انحراف في أحكام الإمامة وفقه السياسة الشرعية؟!

أحكام الإمامة وفقه السياسة الشرعية، هي الأسماء الأقدم المستخدمة للتعبير عن أكثر الأحكام المتعلقة بالسياسة وما يتصل بها، وحين نتساءل عن تغير طرأ على هذه الأحكام، فلسنا نعني بسؤالنا نفاق المتزلفين ولا جهالات الأغمار والسفهاء، وإنما حديثنا هنا عن مؤلفاتٍ واجتهاداتٍ وفتاوى غير محررةٍ صدرت- ولا تزال تصدر- من أسماء كبيرةٍ لها مكانةٌ ومنزلةٌ.

وعادةً ما تكون تلك الفتاوى والاجتهادات ممزوجةً بنصوصٍ من القرآن والسُّنة، مطعَّمةً بمنقولاتٍ عن أكابر أئمة الإسلام، ليبرز- بعد ذلك- تساؤلٌ عن مدى توافق تلك الفتاوى والاجتهادات مع ما أدرج فيها من أدلةٍ وشواهد؟

ومع مرور الأيام وتلاحق الأحداث تراكمت هذه الفتاوى غير المحررة وتتابعت، ثم أضيف لها التوظيف والتوجيه الإعلامي والسياسي، حتى أنتجت لنا في نهاية المطاف ذلك المنهج الفاسد العقيم الذي أصاب عين الحقيقة من أسماه نهج (غلاة الطاعة)!

ومسلك الغلو في الطاعة وإن كان من اليسير على من ملك عقلًا ناضجًا كشف خطئه وانحرافه، إلا أن التساؤل يبقى قائمًا حول تلك الاستشهادات والمنقولات التي يخلط بها أولئك الغلاة دعاواهم ويسندون بها انحرافاتهم.

فمن لم يحكم مسائل هذا الباب ربما يقف حائرًا حين يجد بين يديه طرحًا ركيكًا فاسدًا مزخرفًا بالأحاديث الواردة في السمع والطاعة، مُزينًا بعباراتٍ من مثل: (أجمع أهل السنة)، و(اتفق السلف)، و(قال مالك)، و(نص الأوزاعيّ)، و(ذكر الشافعي)، و(حكى أحمد)، و(نقل ابن تيمية)…، فيسمع ذلك الحائرُ هذه المنقولات ويقرؤها، ثم يفتش عمّن يشرح معانيها ويبين وجه الصواب في فهمها والمراد منها، فلا يجد ما يشفيه ويرويه، وإنْ التفت للجهة الأخرى لم يرَ إلا طرحًا معاكسًا ثائرًا يرفض نهج الغلاة رفضًا عامًّا دون أن يقدم إجاباتٍ شافيةً تزيل الالتباس وترفع الإشكال.

ومع تكاثر ذلك الغثاء، وفي ظل هيمنة الدول على المنابر العامة، نشأ جيلٌ مذبذبٌ، يعاني ويتألم من سوء واقعه المملوء بالأوجاع والمحن، فإذا توجه إلى دينه يلتمس الخلاص في فقهه وأحكامه، لم يجد بين يديه سوى منظومةٍ من الأحكام السلطانية المحرفة المزينة بمسردٍ طويلٍ من الشواهد، فيقف عندها حيران عاجزًا عن التوفيق بين ما يقرأ ويسمع وبين ما استقرّ في وعيه من أصولٍ عامَّةٍ تأبى الظلم وترفض إقرار الفساد.

فالناظر من أبناء اليوم إن لم يتفقه ويطيل البحث، لن يرى أمامه سوى خيارَين أسودين كالحيْن، فإمّا أن يلغي عقله وفهمه، ويقبل ذلك النهج العقيم المتهافت مع ما فيه من شرٍّ وبلاءٍ ومفاسد ظاهرةٍ، وإما أن ينكُص ويتورط في بلية ازدراء الفقه الإسلامي كله، وانتقاص علماء السلف، ويتهيأ لقبول تلك اللّوثة الاستشراقية التي تزعم أن فقه السياسة كُتب ودُوِّن تحت ضغط الأوضاع السياسية، أو بتدخلٍ مباشرٍ من السلاطين والولاة، لا من خلال ما شرعه الله، وما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم.

بل ربّما تعدّى الأمر إلى التشكّك والارتياب في صحة ما وصلنا من السنة النبوية، بسبب التوظيف الخاطئ الموجه لأحاديث السمع والطاعة لأئمة الجور.

ومع تكاثر ذلك الغثاء، وفي ظل هيمنة الدول على المنابر العامة، نشأ جيلٌ مذبذبٌ، يعاني ويتألم من سوء واقعه المملوء بالأوجاع والمحن، فإذا توجه إلى دينه يلتمس الخلاص في فقهه وأحكامه، لم يجد بين يديه سوى منظومةٍ من الأحكام السلطانية المحرفة المزينة بمسردٍ طويلٍ من الشواهد، فيقف عندها حيران عاجزًا عن التوفيق بين ما يقرأ ويسمع وبين ما استقرّ في وعيه من أصولٍ عامَّةٍ تأبى الظلم وترفض إقرار الفساد.

من تأمل هذه الصورة الملتبسة علم أن خطر الانحراف في فقه الأحكام السياسية لا يقتصر على التأصيل للظلم والجور والفساد، فهذا المفسدة رغم قبحها وخطرها، إلا أنها ليست أعظم من فتح باب القدح في الدين، والتأسيس للقطيعة بين الأمة وجذورها، ودفع الأجيال تجاه ازدراء سلف الأمة وتزهيدهم في مصادر الاعتقاد والفقه التي يفترض أن تكون الأساس الذي ستُبنى عليه أي جهودٍ للإصلاح والتصحيح.

ومن نافلة القول التأكيد على أن هذا الكلام لا يعني ادعاء العصمة لجميع ما خلفه لنا أئمة الإسلام، فمما لا ارتياب فيه أن الإرث العلمي الموجود بين أيدينا اليوم فيه ما يُنتقَد ويُعاب من الأخطاء والاجتهادات الجزئيّة التي تندرج تحت قاعدة: (كلٌّ يؤخذ من قوله ويردّ)، لكن هذا شيءٌ مختلفٌ عن الانحراف المنهجي الواسع الذي بات الجميع اليوم يرى آثاره المدمرة المفسدة لأديان الناس ومصالح دنياهم.

كما أن من الضروري التنبيه إلى أن الانحرافات الطارئة في تصور مسائل هذا الباب لا تقتصر على ذاك التيار المشؤوم؛ (تيار غلاة الطاعة)، بل إن دائرة الإشكال والالتباس أوسع من هذا وأعمق، ومَردُّ ذلك- فيما أظنه- أنَّ مجال البحث في هذه المسائل ضيقٌ حرجٌ، وتبعات الكلام فيه ثقيلةٌ، والحديث فيه ذو شجون وسجونٍ، فمن ثمَّ اختار الأكثر العزوف والتَّنائي عن تحقيق مسائله، فلذلك شحَّ البحث المتخصص فيه، وقلَّ التدقيق والتحرير لأحكامه، ومن خاض وتكلم فيه من أهل العلم والفهم والدين، فإنه يلجأ للإجمال دون التفصيل، وإجمال الكلام كثيرًا ما يكون منشأ اللبس والاشتباه.

وهذا الحال وإن كان تغير نسبيًّا بعد شيوع وسائل النشر والتواصل العصرية، إلا أن هذا التغير جاء بعدما تراكمت آراءٌ واجتهادات لم تأخذ حقها من النقد والتفنيد، وبعدما تحول بعضها إلى ما يشبه المسلمات المستقرّة. وهذا ما يعيدنا للسؤال الذي اخترناه عنوانًا لهذه المقالة: (فهل طرأ انحرافٌ منهجيٌّ في أحكام الإمامة وفي فقه السياسة الشرعية؟).

من تأمل هذه الصورة الملتبسة علم أن خطر الانحراف في فقه الأحكام السياسية لا يقتصر على التأصيل للظلم والجور والفساد، فهذا المفسدة رغم قبحها وخطرها، إلا أنها ليست أعظم من فتح باب القدح في الدين، والتأسيس للقطيعة بين الأمة وجذورها، ودفع الأجيال تجاه ازدراء سلف الأمة وتزهيدهم في مصادر الاعتقاد والفقه التي يفترض أن تكون الأساس الذي ستُبنى عليه أي جهودٍ للإصلاح والتصحيح.

لن نبعد عن الحقيقة لو قلنا: إن من ملك فقهًا وفهمًا، فسيدرك بأقلّ نظرٍ أن من المكابرة التشكيك في وقوع هذا الانحراف، وأن السؤال والبحث الجادَّ ينبغي أن ينصرف إلى دراسة حجم الانحراف وعمقه وسبل علاجه، بدل طرح التساؤل عن وجوده وتحقُّقه.

ولعل من أوضح مظاهر التغير- وإن لم تكن أكبرها- أنَّ أئمة السلف في حديثهم عن الولاة (المسلمين) من أهل الفسق والجور، كانوا إذا نهوا عن رفع السلاح في وجوههم، أو أمروا الناس بطاعتهم في المعروف، لم يكونوا يغيبون حقيقة أن هؤلاء الولاة أهل بغي وظلمٍ وفسقٍ، بل كانوا يبرزون هذه الحقيقة قولًا وفعلًا، فلم يكن موقفهم ملتبسًا، لا عند خاصة الناس ولا عند عامتهم، وفي المنقول عنهم الكثير من التصريح بذم ولاة الفسوق والتصريح بكراهيتهم هم وأعوانهم، وربما طال الذمُّ جميع من يجالسهم أو من يتولَّى لهم الولايات، وكانوا كثيرًا ما يستعملون في الإشارة إليهم عباراتٍ من مثل: (أئمة الجور)، و(ولاة السوء) ونحو ذلك.

كما أن من الضروري التنبيه إلى أن الانحرافات الطارئة في تصور مسائل هذا الباب لا تقتصر على ذاك التيار المشؤوم؛ (تيار غلاة الطاعة)، بل إن دائرة الإشكال والالتباس أوسع من هذا وأعمق، ومَردُّ ذلك- فيما أظنه- أنَّ مجال البحث في هذه المسائل ضيقٌ حرجٌ، وتبعات الكلام فيه ثقيلةٌ، والحديث فيه ذو شجون وسجونٍ، فمن ثمَّ اختار الأكثر العزوف والتَّنائي عن تحقيق مسائله، فلذلك شحَّ البحث المتخصص فيه، وقلَّ التدقيق والتحرير لأحكامه، ومن خاض وتكلم فيه من أهل العلم والفهم والدين، فإنه يلجأ للإجمال دون التفصيل، وإجمال الكلام كثيرًا ما يكون منشأ اللبس والاشتباه.

فنقرأ مثلًا في سنن الإمام النسائي عنوانًا نصُّه: (باب الصلاة مع أئمة الجور).

وفي سنن أبي داود نقرأ: (باب في الغزو مع أئمة الجور).

وفي مصنف ابن أبي شيبة: (باب في الشهادة عند الإمام الجائر).

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة: (باب في ولاة السوء).

وفيه أيضًا: (‌‌باب في الأمراء السفهاء ومن يعينهم على ظلمهم).

وفي كتاب قدوة الغازي لابن أبي زمنين: (باب ما جاء في الجهاد مع ولاة السوء).

فاستعمال مثل هذه العبارات كان الغالب في الأزمان الأولى، وهو استعمالٌ يحقق من الاتزان في التصورات والمواقف أكثر مما تحققه عباراتٌ من مثل: (وجوب طاعة الحكام)، و(حقوق ولي الأمر) ونحوها من الألقاب المحايدة التي غلب استعمالها اليوم في الحديث عن رؤساء جاوزوا حدود الفسق إلى ما هو أقبح منه.

قد لا يلحظ بعض الناس أثر مثل هذا التغيُّر، وقد يبدو لهم أن هذه الألفاظ تؤدّي المعنى نفسه، وربما ثار تساؤلٌ عن الاختلاف في الثمرة والنتيجة؛ فإذا كان الجميع يأمر بالطاعة، فما الفرق بين أن يستعمل المتكلم صيغة (ولي الأمر)، أو صيغة (الإمام الجائر)؟ لكن من يفهم أثر اللغة والخطاب المتكرّر في صياغة الوعي، فلن يخفى عليه الفرق بين العبارتين، والمختصون في صياغة الخطاب الإعلامي هم أكثر من يدرك ذلك.

العالم قديمًا إذا تكلم عن الصلاة أو الحج أو الجهاد مع (السلطان الجائر)، أو حتى إذا تكلم عن الطاعة في المعروف لمن يصفه في الجملة نفسها بـ (الإمام الفاسق)، فهو حين يستعمل مثل هذا الألفاظ يعلن للناس أنه ينطلق في موقفه من مراعاة مصالح المسلمين لا أكثر، فهو يراعي مصلحة إقامة شعائر الإسلام والحفاظ على تماسك المجتمع المسلم، دون أن يقتضي ذلك موالاة السلطان ومحبته ومودَّته والرفع من شأنه، فأما امتهان مدحه وإدمان الثناء عليه، فتلك دركة لم تكن تليق عند الأئمة إلا بالأراذل وسقط الناس!

وفي المنقول عنهم الكثير من التصريح بذم ولاة الفسوق والتصريح بكراهيتهم هم وأعوانهم، وربما طال الذمُّ جميع من يجالسهم أو من يتولَّى لهم الولايات، وكانوا كثيرًا ما يستعملون في الإشارة إليهم عباراتٍ من مثل: (أئمة الجور)، و(ولاة السوء) ونحو ذلك.

أما اليوم: فقد تغير الحال حتى صرنا نرى بعض من ينسب نفسه للسلف لا يستحيي من اجترار المديح في المساجد ومن فوق المنابر لمن أماتوا الدين، وأشاعوا المنكر والفساد، ومن ملأوا الأرض فسقًا وفجورًا، وصرنا نبصر فيمن يتزين بثياب العلم والسنة من لا يجد غضاضة من المجاهرة بالحديث عن فضائل وإنجازات: “سمو سيده”! وربما غمره الفجور فجاوز ذلك إلى الطعن والعيب لمن يتجاهلون ولا يصفقون لمحاسن “سمو سيده”!

ومن أدنى ما يشيع اليوم من مظاهر قلة الحياء وخفة الدين أن ترى من ينسب نفسه للعلم والسنة والدين، وقد زخرف حسابه في شبكات التواصل بصورة أحد ولاة السوء أو براية مُلْكِه ودولته. فلو أدرك أئمة السلف أمثال هؤلاء الذين ينتسبون لهم زورًا وبهتانًا، لما عدُّوهم إلا في جملة الأسافل والمجروحين وساقطي العدالة!