توطين الوظائف قد يفهم وجهه في سياق الوظائف العامة ولاسيما الكبيرة، فالدولة تريد في وظائفها من ينفذُ تنفيذَ عبدِ ليس له آمرٌ آخر…ويغلب هذا في نطاق الوظائف الكبرى وذات الخطر، ولهذا من المعهود أن تتبع تشكيلة الحكومات الجديدة تغيرات في وظائف الدولة الكبيرة أو الحساسة. فتقديم ذوي الولاء هنا قد يتفهم وإن كان خطأ وتقديمًا للمحسوبية والولاء على حساب الأكفأ والأنفع للبلاد الذي تضبطه المصلحة.
لكن أمر الدين بخلاف أمر تلك الوظائف، هو كأمر القضاء، الآمر فيه الله تعالى والمأمور الأمير والوزير وكل مواطن! فلا وجه للشبهة فيه، إذ يجب أن يكون مستقلاً حاكمًا لا محكومًا، مقومًا للاعوجاج لا مرسخا له ويشكل كيف تشاء السلطات خاضعًا لهواها، فذاك منكر من أعظم المنكرات.
وهذا ظاهر في سعودة الوظائف الدينية، فإمام الجمعة من أصغر مسجد إلى المسجد الحرام، لابد أن ينفذ أجندة الحكومة السياسية، بل قد يخالف الشرع والعقل لينسجم مع الدولة، فإذا شُنت حملة على مسلمين لأن لهم رأيا في حدود المتاح والاجتهاد شن ذلك الإمام الحملة معها، وأغار على من أمرت الحكومة بالإغارة عليه !داعيًا للظالم! بالتوفيق والسداد مُبارِكًا! وإذا خالف قيد أنملة عُزل، بل أهون أمره أن يعزل وإلا فقد يفقد حريته عقودًا!
وإذا كان هذا في شأن الصلاة خاتمة ما يُفقد، وآخر عروة من عرى الدين تُنقض، فقل مثل ذلك في سائر الوظائف الدينية دونها، من ولاية حسبة، ومنصب قضاء، أو وزارة حج وعمرة، أو شؤون إسلامية وإرشاد ودعوة.
ومحور السعودة للوظائف الدينية هو الولاء؛ ولهذا تلاحظ في أمر الوظائف الدينية من المحسوبية والمناطقية واختصاص بعض العوائل بها، فتجد مناطقا عُرفت بالولاء لها من المناصب أكثر من غيرها، وأذكر مرة أحد مشايخنا ذكر أن بعض وجهاء الحجاز انتقد له- بلطف أهل مكة المعهود- كون أئمة الحرم ذلك الوقت كان عامتهم من نجد وأنحائها، وقال له: لا تجد من عندنا اليوم إمامًا للحرم المكي! فقال له شيخنا: كيف تقول ذلك؛ عندكم الشيخ عبد الله خياط!
فقال له المكي: غيرو؟..عبد الله البودي حقنا، لكن الماكينة تبعكم!
أو شيئًا من هذا المعنى.
فإمام الجمعة من أصغر مسجد إلى المسجد الحرام، لابد أن ينفذ أجندة الحكومة السياسية، بل قد يخالف الشرع والعقل لينسجم مع الدولة، فإذا شُنت حملة على مسلمين لأن لهم رأيا في حدود المتاح والاجتهاد شن ذلك الإمام الحملة معها، وأغار على من أمرت الحكومة بالإغارة عليه !داعيًا للظالم! بالتوفيق والسداد مُبارِكًا! وإذا خالف قيد أنملة عُزل، بل أهون أمره أن يعزل وإلا فقد يفقد حريته عقودًا!
والذي يتأمل أمر إمامة الحرم يلحظ الانحراف في تطور مفهوم السعودة، فقد كان أول أمر الملك عبد العزيز يُحرص على أن يعين مع من يُعرف بالولاء آخرين أكفاء؛ ولهذا كان ثالث الأئمة الذين عينهم عبد العزيز: محمد عبد الظاهر أبو السمح وأصله من مصر، وكان هذا قد ينيب الشيخ محمد حامد الفقي، ثم جاء عبد المهيمن أبو السمح…ولم تتغير التشكيلة المناطقية قبل الملك عبد العزيز كثيرًا، فقد كان أمر التوطين قائمًا على تولية الأكفأ واستجلاب الكفاءات في الجملة وتوطينها، كما تصنعه الدول المتحضرة اليوم.
ولهذا كان الأئمة في تلك الأوقات من مختلف المشارب والمذاهب؛ الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، بالإضافة إلى من يميلون إلى نَفَسٍ من الاجتهاد باسم اتباع فقه الدليل والذي عُرف في توجه الدولة السعودية مبكرًا وإن كان المذهب الحنبلي غالبًا على ذلك، بمفهومه الواسع الترجيحي، وقد كان التنوع قبيل عهد ابن سعود أعظم، وعلى كل حال تجد في أئمة الحرم إبان بدايات العهد السعودي: مصري الأصل، وشاميه، وسمرقنديه، وسناريه، وهلم جرًّا.
وحافظ الملك عبد العزيز على ذلك التنوع في الجملة مع تعيين من يمثل وجهة الدولة، وتقديم من يمثل مفاهيمها، ممن تشكلت عندهم تلك المفاهيم حسبة لأسباب كثيرة، وكثير منهم من آل الشيخ. فكان أول من عيّنه الملكُ عبد العزيز الشيخَ عبد الله ابن حسن بن حسين آل الشيخ، الذي آلت إليه خطبة عرفة مدة طويلة أكثر من ربع قرن منذ أن غدا عبد العزيز آل سعود ملكًا على الحجاز ونجد. ثم توالى على هذا المنصب فضلاء من آل الشيخ إلى وقتنا هذا، وطروء غيرهم عليه إلى عهد الملك عبد الله إنما كان استثناء ونيابة عمن عين من آل الشيخ لعارض.
ثم كان من دهاء من تولوا زمام الحكم من آل سعود في بلادنا أنهم يولون تلك المناصب أهل فضل وديانة، سواء من آل الشيخ أو من غيرهم، لكن الفاضل كثيرًا لا يمنعه فضله أن يكون له تأويل وميل للدولة، ومقررات تدعوه إلى إنفاذ سياستها من خلاله منبره ديانة!!
ثم بعد الملك عبد العزيز غدا التقديم والتغليب مناطقيًّا ومنصبيًّا وبديهيٌّ أن يكون ذلك على حساب الكفاءة، فالمناطق غير المشهورة بالولاء يقل الأئمة منها، بعد أن كان الغالب منها! ثم لم يعد يولى المنصب الأعلى أو الحساس كخطبة عرفة منها أحدًا، فزاد الأمر على ما صنعه عبد العزيز من تقديم الولاء في المنصب الأهم، تقديم مناطق على غيرها عمومًا ولو مع الولاء العام.
وإن كان الدهاء في اختيار أهل الفضل والصلاح الأكفاء حاضرًا، وإن دخل بعضهم ولاء أعمى، مع تطعيمهم بأعلام أفاضل من مناطق أقل ولاء.
ثم بدأ في أول هذا العهد الأخير تغليب الولاء الأعمى على الفضل والمناطق، لكن مع الحرص على أسماء العوائل، فمن كان من بيوتات الإمارة في بعض نجد قد يعزل، وإن كان مواليًا للدولة في الجملة، لكنه لا يجيء على هواها حذو القذة بالقذة! كما حدث مع الشيخ سعود الشريم ، وجده هو الأمير محمد بن إبراهيم أمير شقراء قبل أن يستعفي منها ويولى محمد بن سعود العيسى رحمهما الله، وكلاهما من بني زيد، الأول من الحراقيص، والثاني أظنه من السلمان من آل عطية.

وبمناسبة الأمير محمد العيسى، نذكر تولية خطبة عرفة عام ١٤٤٣هـ/٢٠٢٢م لآخر من آل عيسى، تنطبق حاله على ما وصفنا من مآل الأمور، إذ لم يكن على غرار كرام آبائه فضلاً وشيمة، والعيسى أسرة كريمة من أسر نجد الممتدة شمالًا وشرقًا حتى الأحساء والزبير. وتوجد أسر كريمة أخرى باسم العيسى نجدية وغير نجدية، ليست من بني زيد.
والحاصل أنه في عام ١٤٤٣ ولي الخطبة محمد بن عبد الكريم بن عبد العزيز العيسى، وهو من تلك العائلة الكريمة رفعه من بينها نوع ولائه!
ولأول مرة عبر تاريخ الحج كله يصدر بيان عن مختلف روابط علمائية وجمع من أهل العلم من مختلف الدول الإسلامية يعلنون فيه اعتراضهم ورفضهم التام لتولي هذه الشخصية المثيرة للجدل بمواقفها وتصريحاتها الصادمة وانحيازاته الواضحة إلى جانب الصهاينة والهندوس، ضد المسلمين وقضاياهم في مختلف دول العالم، ومن ذلك تحريضه على المسلمين في فرنسا وغيرها، وأمره أن تخلع المسلمة حجابها أو تغادر فرنسا! فإذا بحجاج هذه البلاد وغيرهم يجدون أنفسهم مضطرين للائتمام به يوم عرفة!
وحال هذا كحال عبد اللطيف بن عبد العزيز آل الشيخ؛ فهما رجلان مشاركتهم في العلم نادرة، لم يُعرفا بما عرف به أسلاف لهم وبنو عمومة من متانة الديانة وقوتها بل أُخذت عليهما أشياء وأشياء فساد وانحراف سلوكي وسرقات، لكنهم عرفوا بالولاء والطاعة العمياء، فكان هذا مسوغًا كافيًا لتسنم هذا ذروة منبر عرفة في العهد الجديد، وأمانة رابطة العالم الإسلامي والوزارة قبلها!
وهذا عبداللطيف وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والأوقاف المهور بوزير المؤخرات، مع وجود من هم أكفأ وأدين وأعلم منهما بمفاوز بعيدة حتى على نطاق العيسى والفوزان وبني عمومتهم من الرواجح والجبرين والسدحان وغيرهم من بني زيد، وآل الشيخ وبني عمومتهم من الوهبة في بني تميم، لكن قد غدا معيار التقديم هو الولاء الأعمى! وهذا في الحقيقة لا يكون إلا مع رقة ديانة أو علم أو بهما معا…لكنه غدا أول وأولى ما ينظر إليه، ويقدم بناء عليه، ثم القبيلة والمنطقة، ثم مسحة من ديانة أو سمعة عائلة تنطلي بها الشبهة على البسطاء.
وخلاصة مفهوم السعودة الدينية التي ننكرها أن يقدم في تلك الوظائف أهل الولاء المنقاد للديوان الملكي…إن ساقه يمينًا فيمين أو شمالاً فشمال، وأن يقصى عنها المتأهل للقيادة الدينية والصدور عن مقتضياتها، القادر على حمل الناس والديوان على مقرر الشرع!
سعودة تقتضي أن يكون الناطق بالشرع ناطقًا بما يريده الديوان، فالدين دين الملك، والأمر أمره!
ونتج عن هذه السعودة كبتُ كل عالم وداعية صالح وإن كان من أكرم بيوتات البلاد وأهلها، لكونه مؤثرًا يسوق الناس إلى ما يخالف دين الملك، وإن كان يوافق حكم الشرع! بل وشيطنة كل عالم عالمي يصدر منه رأي للمسلمين مخالف للهوى الملكي.
وكبت المواطن من هؤلاء يسير إما بالتهديد أو بالسجن وتلفيق الدعاوى التي تسارع الجزائية المتخصصة المسعودة في إثباتها !
وخلاصة مفهوم السعودة الدينية التي ننكرها أن يقدم في تلك الوظائف أهل الولاء المنقاد للديوان الملكي…إن ساقه يمينًا فيمين أو شمالاً فشمال، وأن يقصى عنها المتأهل للقيادة الدينية والصدور عن مقتضياتها، القادر على حمل الناس والديوان على مقرر الشرع!
ومؤخرا واجهت هذه السعودة معضلة المؤثر من الخارج، فماذا تصنع مع هذا؟ حيث دين الله واحد، وقد جرت سنته بأنه إن تخلف عن حمله قوم، أو عجزت عنه فئة، أقام له قومًا آخرين، (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) [سورة الأنعام: ٨٩]، (إِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [سورة محمد: ٣٨].
وإذا كان كذلك فماذا يفعل من سعود الوظائف الدينية لئلا يخرج من تحت عباءته مخالف وهو يرى الأمر ينقلب عليه؟ فرغبته في السيطرة على الدين وتسييسه باسم السعودة، غدت سببًا لظهور مشاعل الهدى بأيدي آخرين!
ومشاعل الهدى كاشفة فاضحة لسوءات المسيسين للدين، ومن خصيصتها أنها لا تنطفئ فالله متم نوره، فلا غرو من سعيهم الحثيث في إبعادها، بمحاولة النيل من حملتها، وإطلاق كلاب وسائل التواصل عليهم.
وتأمل تجد عجبًا! ما أن ينبغ في الدين أو الفكر نابغة، يتحدث في هموم الأمة، وقضاياها المشتركة، وواجبها تجاه قضايا المسلمين وأقطارهم -فلسطين مثلاً -، أو حقوق المظلومين والمستضعفين من المواطنين، حتى يُسلَّط عليه الذباب والمتصدرين، وتُعلن ضده حرب يحمل رايتها أدعياء وطنية وهم في حقيقتهم دعاة سعودة الدين والفكر ، فالوطن عندهم منحصر في دولة بل أسرة بل أفراد بل في ملك أو ولي عهد!
وأيا ما كان فهل يجدي ذلك؟!…
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب!
هما سبيلان:
إما سعودة الدين، أو تدين السعودية.
الأول هو طريق الاستبدال والتقازم، والثاني طريق السيادة، ومن رامها فلابد له من الرجعة وتصحيح المسار.
وتصحيح المسار يبدأ من شعور ذلك المراقب بالخزي والعار من خروجه قبل الفجر ليتحقق من أن مؤذن جامع فلان البرماوي أو المصري أو الهندي قد التزم ترك الأذان والصلاة بالجماعة لكونه غير سعودي! -قصص حقيقية -.
أن يندم على سعيه في إبطال عمل هذا الحريص المنضبط واستبدال حَدَثٍ به يأتي يومًا ويغيب مع الشباب عشرًا!
ولا ينتهي عند منبر المسجد الحرام ومحرابه…حيث يقدم الأكفأ، الأصلح، الأصدع بالحق، والأنصحُ. بل يتجاوز ذلك إلى سائر المناصب الدينية قضاء وفتوى وحسبة فيتخير من يرشد العباد ويقود الأمة خاصة وعامة بمقتضى الشرع وينقاد إليه الديوان…لا من يقودها بمقتضى الديوان، ويتكلف في سبيل ذلك توطين حقيقي يرعى المصلحة ويستجلب الكفاءات، لا يبعدها ويستجلب الفسقة والفاسقات.
والله المستعان.