انتشر مقطع لمداهمة قوم ضبطوا متلبسين بحيازة أضحية العيد…وقد تمت السيطرة على أصحاب الخراف، ورفعت الخراف ثم جمعت، لأمر ما وقدر آخر ينتظرها قد بدا في بعض الأحوال أنه كان أعجل من يوم العيد…والله أعلم ماذا يصنع بأصحابها!
والمهم أن السنة المؤكدة التي ذهب إلى وجوبها بعض العلماء غدت جريمة، يستتر ممارسها! وإذا ضبط، صودرت الأضحية التي عيّنها، وعوقب صاحبها، وقد يقع العقاب بقتل تلك الأضحية فجاجة وغلظة!
وكان ذلك في المملكة المغربية..حيث يوجد ما هو أولى بالاقتحام!
أما في المملكة المشرقية السعودية، فالأمر كذلك عجب، حملات مداهمة، ونقاط تفتيش، وطائرات مسيرة (درون)، يتتبع بها المتسللون لأداء ركن الإسلام وفريضة العمر وتُنشر وتَنتشر المقاطع أيضًا لمداهمات بوليسية، وأخبار السيطرة والضبط وتم القبض! على متسللين بطرق برية غير مطروقة، وعلى أشخاص متلبسين بـــ (جريمة الحج بلا تصريح)، فهذا يخرج من تحت السرير، وذلك يتتبع في عمق بري ليس فيه إلا الطير وهو!
يحصل هذا ويبارك وإن نادى منادي الشرع بالحج والشعائر، وإن أدركت الفريضة من لا طاقة لهم بالحملات، وهم يجدون الزاد والراحلة، وعندهم جلد على المناسك، وطاقة بالتنقل بين المشاعر، لا يسألون أحدًا لا إلحافًا ولا غيره… وإن كان ذلك كذلك فلا حج بلا تصريح! ولا تصريح بلا جرعة كورونا رابعة! ولا جرعة رابعة إلا بعد ثالثة، وهذه واحدة من سلسلة شروط عدد منها لم يُبنَ على هدى!
وفي كل ذلك لست أنتقد أصل التنظيم، لكن التتبع الحثيثَ، والمنع الصارم، والشروط التعسفية، والتحكم المفرط، والعقوبة والتشديد على من يريدون خيرًا، ويؤدون نسكًا، قد يكون مفروضًا عليهم. وفي الجملة فإن انتقاد هذه التصرفات يصب في موضوعين مهمين:
الأول: تقديس النص النظامي، والجمود على ظاهر التنظيم!
التنظيم مصلحة عامة، ينظر فيه المتأهل بنظر مصلحي يراعي النصوص والمعاني.
ومن المفارقات أن دعاة تقديس التنظيم، والالتزام الصارم به، كثير منهم دعاة لعدم الجمود! بينما هم يجمدون على التنظيم الإداري الذي يضعه عامة في حكم الشرع!
يدعون إلى الاجتهاد في مقررات المذاهب الراسخة، فأكثرهم دعاة لفقه الموازنة والترجيح، لا يعبؤون بمخالفة مقرر جمهور الأئمة المجتهدين! بدعوى اتباع الدليل الذي غاب عن جمهور الأئمة وأدركه أفرادهم! ثم يتناقضون هنا فيتركون النص الذي جاء بالشعيرة، وأوجب الفريضة، وهم يقررون أن المصلحة في اتباع النص! لكنهم يتجاوزونه باسم مصلحة التنظيم الذي وضعه عامي، ولو كان واضعه الجمهور لاستسهلوا الخروج عليه! بما يزعمونه نصوصًا لا ترقى لأن تكون كنصوص الأمر بخامس أركان الإسلام!
وإذا تجاوزنا ذلك التناقض؛ فكل باطل إنما يروج على الناس إذا التبس بحق، وفي أصل الدعوة إلى التنظيم وترك الجمود على ظاهر النص حق، فقد يمنع الجمود على ظاهر له معنىً مرعيٍّ غالب تخلَّف في مواطن، أو خُصَّ بنص أو قياس. لكنهم لا يلتزمون هذا الحق في نص نظامي بل في قرار إداري! فيجعل الأمر والنهي الإداري المصلحي مقدسًا في حدِّ ذاته لا يطبقون عليه ما يطبقونه على الأمر الشرعي! فيستحق العقاب من خالف أمر ولي الأمر، أو أمر نائب له متسلسلٍ بعيد أو قريب أو من له شبهة نيابة! وإن كان النظر في حالة يقضي بأن تلك المخالفة مصلحة؛ كحج طالب علم ينتفع الناس به، وكحج آخر لا يملك ما يؤدي الفرض بمتطلبات التصريح، أو يتضرر ببعض شروط الإذن كبعض التطعيم، أو كحج من دعته ضرورة غيره من قادم بعيد ضعيف أو تجب عليه تجاه حقوق.
وفي كل ذلك لست أنتقد أصل التنظيم، لكن التتبع الحثيثَ، والمنع الصارم، والشروط التعسفية، والتحكم المفرط، والعقوبة والتشديد على من يريدون خيرًا، ويؤدون نسكًا، قد يكون مفروضًا عليهم
وككثير ممن يحترمون أصل التنظيم والترتيب لكن يدفعهم شوق إلى تلبية نداء الخليل وتلك المشاعر، ويتأولون كون الغرض من التنظيم قد تم، وما فيه من المصلحة قد حصلت، وزيادة قلة لن تؤثر على ذلك…وإما لغير ذلك.
والمهم هنا أن الناس أحوال ومذاهب يجب أن تقدر…ولاسيما مع موافقتها النصوص، والمقرر عند الفقهاء قرونًا من أمر المتابعة بين الحج والعمرة.
أما الأمر الثاني: فجعلهم مخالفة النظام مخالفة للمصلحة ومقرر الشرع ضربة لازب.
وهذه لوثة من تقديس غير المقدَّس! نعم نص العليم الخبير يقال فيه ذلك، ويضيَّق من مخالفته، إذ الصلاح فيه، وكل الخير في اتباعه.
أما أنظمة البشر وترتيباتهم، فقد تكون لها معانٍ شرعيةٌ يحسن أو يجب أن تُرعى، كترك الافتراش وأذية الناس، وترك المزاحمة على المناسك؛ رميًا للجمرات، أو طوافًا بالبيت، أو استلامًا للركنين، ونحو ذلك…والتنظيم إنما وضع لذلك، فمن حج والتزم ألا يؤذي فلا يفترش في طرق الناس، ولا يؤذي بزحام، ولا بكلام، فهذا لا سبيل إلى عقوبته، فلو قُصر الحساب على من جنى من ذلك شيئًا، لكان له وجه أظهر.
أما أن يجعل من لم يجن من ذلك شيئًا كالمجرمين والجناة فليس هذا برشاد!
وقد يَتفلت من صُرِّح له ويَتجاوز وهذا كثير لا ينكر، ومن أعظم غرض شرطة المشاعر ضبط ذلك، وقد يلتزم ألا يؤذي من حج بغير تصريح، فلا تلازم.
والأصل أن يؤمَّن من دخل مكة، وإذا كان طيرها لا ينَفَّر، وشجرها لا يعُضَد، أفيجوز أن يُنفَّر ويُخرج، ويُعنَّف ويُبعد، ويُغرّم ويُؤذى، من دخلها محرمًا، وتُستحل عقوبته فيها وهو حرام! وقد وضع البيت له، وقال له ربه: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [سورة آل عمران: 98]؟!
بل كيف يكون الأمر إذا كان التنفير والإخراج والإبعاد من داخل المسجد الحرام نفسه؟! ويُسأل الداخلون فيه – محرمين أو غير محرمين- عن هوياتهم وتصاريح حجهم! فمن لم يكن يحمل شيئًا من ذلك فيُخرج ويُعاقب!
كان الناس في سنوات مضت ربما حجوا بغير تصريح، وكان كثير من عامة العسكر أهل فهم؛ فإذا دخلت متجهًا إلى الموقف في عرفات وقد انقضى غرض المنع وصد عن البيت كثيرون، كانوا يتجاوزون، وربما تسمع من يجيزك وهو يقول: ادعوا لنا معكم!
هذا الذي يفعله الجندي البسيط بفطرته، أقرب إلى العقل، وحكم الشرع ممن يتتبع هؤلاء بالدرون، وينزل بهم العقوبة!
وربما كان أجنبيًّا فيُرحَّل ويُبعد ويُمنع من الدخول، أو يُقيّد على إقامته قيدٌ، فلا يؤذن له بعدها بتجديد!
والأصل أن يؤمَّن من دخل مكة، وإذا كان طيرها لا ينَفَّر، وشجرها لا يعُضَد، أفيجوز أن يُنفَّر ويُخرج، ويُعنَّف ويُبعد، ويُغرّم ويُؤذى، من دخلها محرمًا، وتُستحل عقوبته فيها وهو حرام! وقد وضع البيت له، وقال له ربه: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [سورة آل عمران: 98]؟!
وهذه الإشكالية في حمل أمور المصلحة العامة والتنظيم محمل الأمر المقدس، لها مظاهر أخرى، وتجليات كثيرة، في العبادات، وفي الصحة، وفي التعليم… مع الأسف تجدها في الدول التي يعدها الغرب متخلفة أكثر مما تجده في الدول الغربية، التي إن وجدت فيها عقوبات فهي مخفَّفة مقارنة بما تجده في دولنا، على مخالفات ظاهرة، من نحو إساءة استعمال المرافق العامة، التي تسري في عموم البلاد.
والقول بجواز عقوبة المخالف مطلقًا وإن لم يحصل منه أذى-فضلاً عن تغليظها- في كثير من تلك الظنيات، من الجهل، وإن لبس ثوب التنظيم، والمصلحة والعامة، ومنع الفساد؛ فذلك لا يجوز أن يحتج به إلا على من تحقق فساده، بمخالفته، لا من خالف التنظيم وراعى ألا يقع الفساد، والله بصير بالعباد.